جماليات المكان الآسفي في رواية ” أنا النقطة ” لـ د أسماء غريب

2,596

    ذ سعيد البهالي

        مدينة آسفي المغربية سحرت بجمالها وبهائها الشعراء والأدباء والرحالة والمغامرين … فتفننوا في وصف معالمها وأعلامها وتقريض تاريخها وتراثها وذكر محاسن حضارتها ، هذه المدينة الناعسة على شاطئ المحيط الأطلسي والتي أسماها العلامة عبد الرحمان بن خلدون (1332م /1406م) ” حاضرة البحر المحيط” هي عنوان المكان وهويته ، وذاكرته وتاريخه ، حباها الله تعالى بالجمال الجلال  والغنج والدلال والسحر الحلال ، وصفها  الأديب الوزير لسان الدين ابن الخطيب الغرناطي ( 1313م /1374م) فقال :” لطف خَفِي ، وجناب حَفِي ، ووعد وَفِيّ ، ودين ظاهره مالكي وباطنه حنفي ، الدماثة والجمال ، والصبر والاحتمال ، والزهد والمال ، والسذاجة والجمال ، قليلة الأحزان ، صابرة على الاختزان ، وافية المكيال والميزان ، رافعة اللواء بصحة الهواء ، بلد موصوف برفيع ثياب الصوف ، و به تربة الشيخ أبي محمد صالح …” (1) ، وقال عنها الأديب الشاعر عبد الله بن العباس القباج السلوي ( 1910/1945) :

ما كنت أحسب قبل رؤية آسفي    أن الشمس بها تلوح وتختفي

بلد  على  البحر المحيط  كغادة    أهدت   جواهرها  له   بتلطف

فتزينت   وتمولت     من ذره     وتزخرفت بِحُلاهُ  أي تزخرف

هكذا هي مدينة آسفي تسحر بجمالها كل زائر أو حاضر ، واللافت في السنوات الأخيرة اهتمام الروائيين بالمدينة وفضائها ، فلا تكاد تخلو رواية آسفية من ذكر جماليات المكان الآسفي ، حيث برزت أعمال روائية متميزة اتخذت من المدينة فضاء للتخييل ومن تاريخها أحداثا للسرد ، ومن رجالها ونسائها شخصيات وأبطالا ، ومن أهم هذه الأعمال الروائية التي اطلعنا عليها : رواية ” أوراق عبرية ” لحسن رياض (2) و رواية ” زاوية العميان ” لنفس الكاتب ، وروايات محمد أفار ” درب كَناوة ” (3) ورواية ” مجهولة وغريب ” لنفس الكاتب (4) وروايات عبد الرحيم لحبيبي ” خبز وسمك وحشيش ” (5) و ” سعد السعود ” (6) و ” تغريبة العبدي المشهور بولد الحمرية ” (7) ورواية ” باب الشعبة ” بجزأيها لأحمد السبيقي (8) ورواية ” تيغالين ” لياسين كني (9) ورواية تراب الصيني لمحمد نادر فهمي ، وروايتي د أسماء غريب ” السيدة كركم ” و” أنا النقطة “(10)… وعندما نتحدث عن مدينة آسفي كفضاء روائي فإننا لا نحاول الغرق في يم الخصوصية وشرنقة المحلية أو الانكفاء على الذات ، بل القصد هو التعرف على مستويات الحضور المحلي وجمالياته في الأدب الروائي ضمن عالم يموج بالعولمة في كافة مستوياتها ، والباحث في التاريخ و الهيستوغرافيا المحلية أو العاشق لمدينة آسفي عندما يقرأ رواية ” أنا النقطة ” لا يستطيع أن يجعل بينه وبين المكان الروائي ـ وأقصد هنا بالضبط المكان التاريخي الآسفي باعتباره حيزا طبوغرافيا وذاكرة وهوية ومعنى ـ مسافة فاصلة ، فهو سرعان ما يندمج في / مع السرد ، فيتتبع أحداث الرواية ووقائعها وشخصياتها ، ويقارن أماكنها المتخيلة مع الواقع ومع التاريخ ، فيتوقف مليا ليعيد تأمل المكان ( واقعيا وتخييليا ) عبر ما اسماه الناقد السوري غالب هلسا (1932/ 1989) ب  ” تعليق القراءة ” ، وهذا الباحث العاشق للتاريخ المحلي تغريه تيمة المكان أكثر من باقي مكونات السرد الأخرى ، خصوصا إذا كان هذا المكان هو مسقط الرأس ومهوى النفس ومنبث الغرس ، فلا عجب إذا وجد نفسه مشدودا إلى المكان روائيا وتخييليا ، ومشدوها بدلالاته الرمزية والإشارية ، خاضعا للخيال وسلطة السرد حينا ومتجردا عنهما أحيانا أخرى ، فالمكان بطبعه يأسر الخيال ، ويسيطر بقوة على الانفعالات خصوصا إذا كانت اللغة الإبداعية عذبة جذابة والتخييل خصب معطاء ، فيتشارك هذا القارئ العاشق لمدينته مع الروائي في ذكرياته عن المكان  ومغامراته وأحاسيسه ، فيحصل التلاقح والتلاقي النفيس بين القارئ / المتلقي والكاتب / المبدع ، فتحصل ” فاعلية المكان ” أي قدرته على التأثير في المتلقي والجمع بينه وبين المبدع ، خصوصا إذا كان المبدع / الروائي عارفا بمدينته وأسرارها ، عاشقا لتاريخها وأعلامها ومعالمها وتفاصيلها المكانية والزمانية ” لاسيما تلك التي تبحر في الذاكرة الكونية “.(11)

أهمية المكان في العمل الروائي

     يعد المكان أحد العناصر الأساسية التي يقوم عليها العمل الروائي إضافة إلى باقي مكونات السرد الأخرى من زمن وشخصيات ووصف وحوار وأحداث … فهو حسب هنري ميتران  ” يؤسس الحكي لأنه يجعل القصة ذات مظهر مماثل لمظهر الحقيقة ” (12)، فلا يمكن تصور شخصيات أو أحداث أو زمن بدون مكان ،فالمكان “هو الذي يضفي على التخييل مظهر الحقيقة ” (13) ، وهو ” ليس عنصرا زائدا في الرواية ، فهو يتخذ أشكالا و يتضمن معاني عديدة ، بل إنه قد يكون في بعض الأحيان هو الهدف من وجود العمل كله “(14) ، وعلاقة المكان بباقي مكونات السرد هي نفسها علاقة المكان بالتاريخ ، حيث لا يمكن تصور مكان بدون تاريخ ، ولا تاريخ بدون مكان ، فالمكان الروائي هو ” البصمة والتأشيرة التي تفتح لك الطريق لتتبع مسار الرواية من بدايتها إلى نهايتها ، وهذا من خلال الحقائق المرتبطة بالعادات والتقاليد والمعاناة والانتصارات والمواقف والأحداث التي تزخر بها الرواية ” (15) ، والفضاء في الخطاب الروائي بالاضافة لكونه يعطي للعمل الأدبي خصوصيته وبالتالي أصالته (16) فهو يمكن أن يشكل المادة الجوهرية في الكتابة حسب جوزيف فرانك ( 1918/2013) (17) ، ونحن في هذه الدراسة نستعمل مفهوم المكان كحيز جغرافي ولا نستعمل مفهوم الفضاء ، لأن هذا الأخير أعم وأشمل من المكان ، كما يلعب المكان دورا أساسيا في تدعيم عملية السرد وإتاحة الفرصة لتحرك الشخصيات وللتعبير عن مكنوناتها ومواقفها وتوضيح الرؤية أو الموقف الإيديولوجي للروائي من الأحداث والشخصيات ، ناهيك عن تأثيره على اللغة السردية نفسها ، بالإضافة طبعا إلى ” تحريك خيال القارئ وتحقيق استكشافات منهجية للأماكن ” (18) ولا يمكن استيعاب مضمون النص الروائي دون استيعاب الأمكنة ودلالاتها وإشاريتها ، فالمكان ، وهو الوعاء الذي يحوي الحدث الروائي وينظمه ، كما تؤكد على ذلك مجمل الدراسات النقدية ” يسهم في خلق المعنى داخل الرواية ” (19) كما أنه مفتاح ” من مفاتيح استراتيجيه القراءة بالنسبة للخطاب النقدي “(20) ، كما انه يعتبر المدخل الباذخ والبوابة المغرية للولوج إلى عالم النص الروائي واستكناه خباياه وخفاياه ، فهو الطبوغرافية / الحيز الذي تتحرك فيه الشخصيات وتنطلق منه وإليه الأحداث .

     إذا كان للمكان كل هذه القيمية في العمل الروائي فكيف كان حضور المكان الآسفي ( وبالأخص المكان التاريخي والحضاري) في رواية أنا النقطة؟ وما هي تجليات جماليات المكان الآسفي ؟ وما هي دلالاته الرمزية والإشارية ؟

جماليات المكان الاسفي وتجلياته

      يشكل المكان الآسفي ، وخصوصا التاريخي ، بعدا أساسيا ورئيسيا في تكوين البنية السردية في رواية ” أنا النقطة ” ، ويشكل عنصر تبئير و تكثيف مركزي للرؤية الفكرية والإبداعية والجمالية للروائية  أسماء غريب ، حيث اشتغلت على المكان وفق رؤية أدبية واعية وحملته دلالات رمزية ودلالية وفنية متعددة حتى أمكننا أن نعده شخصية لا تقل أهمية عن باقي شخصيات الرواية ، ويبدو أن الروائية منفتحة بشكل كبير على المكان ( بما في ذلك الفضاء الخارجي : “كوكب موسيكاينو” ، المشتري) ، لكن تركيزنا سينحصر على المكان التاريخي الآسفي وتجليات جمالياته ودلالاته ، فالقارئ للرواية سيلاحظ توظيف الأمكنة التاريخية والتراثية والروحية للمدينة ( قصر البحر البرتغالي ، تل الفخارين ، خلوة الإمام الجزولي ،عين لالة ميرة ، الكنيسة الاسبانية ..) بشكل مكثف ، وهذا التوظيف يهدف إلى تحرير هذه الأماكن من النظرة الناجزة / الجاهزة وإعطائها أبعادا جمالية أخرى عبر دينامية خيالية (من جهة الروائية) تستند إلى التأويل والقراءة المفتوحة (من جهة المتلقي)، كما أن السرد المشبع بالتاريخ والتصوف والتراث والميثولوجيا والحكمة / الفلسفة أضفى على المكان الآسفي جمالية وفتح لآفاق التأويل أبوابا متروكة لنباهة المتلقي وذائقته الجمالية ، ونقصد هنا التأويل المنتج واحتمالاته اللامتناهية التي تمنع المتلقي من وهم امتلاك المعنى النهائي ، وكثافة حضور الأمكنة التاريخية والحضارية لآسفي يحيل من جهة على كون الروائية تحاول الانتصار للمكان التاريخي المفعم بدلالاته الرمزية والوجودية ، ومن جهة أخرى يجعلنا نكتشف فيها العاشقة للتاريخ المحلي بأعلامه ومعالمه وتراثه، كما سيلاحظ القارئ أن الروائية تكثف حضور المكان التاريخي والتراثي ضمن مجال المدينة العتيقة لآسفي كما لو أنها تعمل على ” اقتصاد المكان ” وتركيزه بدل تمييعه وتشتيته ، وبالتالي يتيح لها التحكم في الدلالات والقيم التي تنتجها هذه الأمكنة .

    عملت د أسماء غريب في رواية ” أنا النقطة ” على إغناء الفضاء الروائي بأماكن متعددة تاريخية وحضارية وتراثية وروحية ذات حمولات قوية في الذاكرة الجمعية الأسفية ، وأعطتها دلالات وهويات جديدة ، نقول هذا ونحن نعلم جيدا أن المكان الروائي المتخيل ليس هو المكان الحقيقي والواقعي وإن بدا لنا متشابها ، خصوصا داخل رواية تفيض بالمعاني العرفانية ، فالمكان الحقيقي  أحادي الدلالة ناجز المعنى ،في حين أن المكان الروائي لا حدود لمعانيه ودلالاته جماليا ومرجعيا ، وحضور المكان الآسفي في رواية ” أنا النقطة ” كان متوازنا مع باقي مكونات الرواية ، فلا هو معتم عليه أو مقصي ، ولا هو طاغ أو مهيمن على باقي مكونات السرد ، وهو سرد منفتح على تعدد الأمكنة الأسفية ما بين التاريخية       ( قصر البحر) والتراثية ( تل الفخارين) والروحية ( خلوة الإمام الجزولي، الكنيسة الاسبانية ) والطبيعية ( البحر ، وادي الشعبة ، عين لالة ميرة ) … مما يعني أن هناك وعيا بجماليات المكان الأسفي وتوظيفه إبداعيا وتثمينه جماليا ، وهذه الأماكن المتنوعة تشكل حافات التاريخ القوي للمدينة ، صاغت منها الروائية سردا يسائل الماضي التاريخي والثقافي والحضاري لمدينة آسفي ، ويطل على أسئلة وجودية عميقة خاصة بالإنسان وأهدافه ومصيره ومعنى وجوده ” تعلمت أنا أيضا ألا أكون يا عزيزي عبد الحق كالعديد من الفلاسفة يتساءلون من أين أتوا ، ويضيعون في عموميات الوجود ، فأنا غيرهم تماما ، لآني أعرف من أنا ، ومن أين أتيت وإلى أين سأمضي “(21) ، فالمكان الآسفي هدفه صناعة المعنى وتخصيبه وإبراز دلالته في علاقته بباقي مكونات الرواية ، وقد دعمت عراقة المدينة وغناها بالشواهد الحضارية والآثار التاريخية والأماكن الروحية والمعالم التراثية جدارة الاختيار المكاني ، وهو ما ينم عن جمالية الذائقة الجمالية لدى الروائية ووعيها  بسر المكان الآسفي الساحر، ومن لا سر له لا سحر له ، حيث زاوجت بين جمالية المكان وجمالية التصوير ، بين الوصف الواقعي والسرد التخييلي ، فذكرت الأماكن الأسفية التاريخية مع المحافظة على بلاغة التصوير الروائي دون الوقوع في فخ “التوثيق” وجمود الوصف ، فجمالية المكان الموصوف لا تتحدد إلا بجمالية اللغة الواصفة ، ولإبراز جماليات المكان الأسفي وظفت الروائية عدة تقنيات سردية كالوصف والتصوير والتخييل والترميز والإيحاء والانزياح / البلاغة اللغوية والإيهام بالواقعية… فجمالية الأماكن لا تتجسد فقط في تسميتها في الرواية أو في تحديد أبعادها الهندسية والفيزيقية ، بل في طريقة توظيفها روائيا ومنحها شحنات دلالية وبلاغية ورمزية مكثفة وعلاقتها بالأحداث والشخصيات ورؤية الروائي أي إعادة صياغة المكان روائيا / تخييليا .

     المكان الآسفي في رواية ” أنا النقطة ” ليس فقط مكانا فنيا يؤثث الفضاء المشهدي للرواية ، كما أنه ليس مجرد حيز جغرافي تجري فيه الأحداث وتتحرك فيه الشخصيات ، بل له ارتباط وثيق ” بالمدينة التي رأت فيها الروائية النور” ، أي أن المكان هو جزء من الرؤية الفنية والرؤيا الجمالية ” لمدينة عارفة بالله ” ، وجزء من ارتباط الأنا بالعالم ، ولعل هذا ما يجعلنا نؤكد على خصوصية المكان ، أي عرفانية المدينة التي هي صورة لعرفانية الرواية وعرفانية الروائية ، أو ما اسماه غالب هلسا      ” وحدة العارف والتعرف والمعروف ” ، فأسفي تحضر روائيا كمدينة للزهاد والعباد والعرفاء ورجال الله الصالحين ، مما يجعلنا نتبنى النظرية القائلة بأن ” المدن مثل سكانها متشابهة ” (22) ،وبالتالي استنتاج العلاقة الأكيدة بين المكان ومضمون الرواية ، وهذا ما تؤكد عليه المدونة النقدية ، وقد سبق للناقد د حميد لحميداني أن طرح سؤالا مهما وأجاب عليه :     ” هل تؤثر طبيعة المضمون على درجة حضور المكان في الرواية؟؟؟ هذا شئ أكيد .. !(23) ، وبالتالي يمكننا القول بأن جماليات المكان الآسفي هي إحدى أوجه الارتباط الوجداني والروحي للروائية بمدينتها التي ” رأت فيها النور” ، مع ما تحمله هذه الجملة الأخيرة من تكثيف رمزي ودلالي وإيحائي ، وهذا سينعكس بدوره على علاقة الشخصيات بالمكان ، فهي علاقة حميمية وروحية ، ومن مظاهر هذه الحميمية إنتاج جهاز مفهومي ولغة سردية قائمة على أساس المحبة والألفة والحنين والتذكر والسكون والحبور والقناعة والورع والصمت والزهد والبساطة …وكان المكان يفرض هويته على ساكنيه ، فالروائية بإضفائها للبعد الوجداني والعاطفي فهي تحاول تكسير صرامة المكان التاريخي وصورته النمطية في المخيال الجمعي ، مما يعني أنها أمكنة ليست وعاء للحدث فقط بل الأمر اكبر من ذلك بكثير ، لذلك يرى غاستون باشلار (1884/1962) أن ” المكان ليس بمثابة الوعاء أو الإطار العرضي التكميلي ، بل له علاقة بالإنسان ، علاقة جوهرية تلزم ذات الإنسان وكيانه “(24) ، لذا فالمتلقي النابه سيحس أن الروائية تحتضن المكان الروائي احتضانا حانيا ، تبادله المحبة والألفة ويبادلها الذكريات والحنين ، هذا الاحتضان الدافئ المتبادل خلق عالما من الجمال بآفاق رحبة ودلالات رمزية متعددة ، فقد التقطت عين الروائية الثاقبة وذاكرتها الخصبة بعض قضايا المكان الآسفي وتفاصيل المجتمع وحرفه وصناعاته وتقاليده وطموحاته وعلاقاته المتداخلة وذاكرته الجمعية ، ولا عجب فالمكان الروائي ” هو الذي يستقطب جماع اهتمام الكاتب ، وذلك لأن تعيين المكان في الرواية هو البؤرة الضرورية التي تدعم الحكي وتنهض به في كل عمل تخييلي “(25) وهذا الحب المتبادل بين الروائية والمكان ـ باعتباره سلطان المكونات السردية ـ هو الذي جعلها تصف مدينة آسفي مرارا بكونها مدينة عارفة بالله وأنها ” قد ظهرت بالنقطة في فضاء القدس قرب جنة الرضوان يطوف حولها جميع الملا العلى وهياكل الخلد الأعلون ” .(26)

     إن حميمية المكان الآسفي هي إحدى تجليات جماله في الرواية ، وهذه الحميمية يجسدها ذلك الكم الهائل من الشحنات العاطفية والوصفية والبلاغية المدعمة بالألفة والمحبة والمحتضنة للمكان بكل تفاصيله وماضيه التاريخي والحضاري ، كما يجسدها غياب الأمكنة ” العدوانية ” مثل السجن والمنفى .. مما يجعلنا مرة أخرى نؤكد على أن حضور المكان الحميمي هو نتاج تجربة داخلية للروائية ، تجربة تمتح من الجمال والألفة والعرفان والعشق والنور ” وتشي بوجود عين لها قوة الملاحظة ، عينُ فكرٍ تمضي نحو مزاوجة التجربة الداخلية فيما يمكن أن نسميه بتدفق بصري “(27) ،إنها ” العين الساردة ” المفعمة بروح الجمال ، والتي تقتنص أحسن الأمكنة باسفي لتوظفها روائيا / تخييليا ، والمعبرة عن “القلب العاقل ” العارف بشروط المكان ودلالاته ورمزيته ، فهناك تأثير متبادل بين الأمكنة الشريفة والقلوب اللطيفة ، ومعرفة هذا الفن من شروط تمام العارف وعلو مقامه كما صرح بذلك الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي (1165م/1240م).

      اختارت د أسماء غريب أنساقا مكانية آسفية أغلبها ينتمي إلى عالم التاريخ والتراث والحضارة وكأنها من جهة تحاول إيقاظ وعينا وتنبيهنا إلى تجديد إحساسنا بالمكان التاريخي و الالتفات إليه والاهتمام بتراثنا الحضاري والتاريخي الذي يتآكل يوما بعد آخر ( قصر البحر البرتغالي ، خلوة الإمام الجزولي ، الكنيسة الاسبانية …) ، فأسفي ليست حيزا جغرافيا فقط بل هي تاريخ أيضا ، مدينة الله المفتوحة على العالم وحاضرة البحر المحيط التي ترقد الشمس عند أقدامها كل مساء ،ومن جهة ثانية تحاول إعادة إنتاج المكان التاريخي روائيا ـ لا تاريخيا ـ بما لا يتنافى مع معطيات التاريخ ، وهو ما يجعل قراءة الرواية  “قراءة في السياق” (28) وبالتالي ، وهذا أساسي جدا ، فالاشتغال بسؤال المكان الروائي ليس فقط ” انشغال أدبي جمالي ، بل أيضا انشغال ثقافي ونقدي ( نقصد نقد الوعي ) لأن المثقف العربي (الإنسان العربي) ما زال مطالبا بأن يعيش الفضاء كعلائق وأن يعيشه أيضا كجغرافيا ” (29) ، والحديث عن المكان التاريخي والحضاري الآسفي في الرواية لا يعني مطلقا وأبدا واقعية الأحداث الروائية ، فالرواية تخييل وليست تقرير، ولا يعني أيضا الإمساك الجاهز بمعنى واحد للمكان ، فذلك غير ممكن لكون الرواية ـ كعمل تخييلي ـ تعتمد على الانزياحات اللغوية ومثقلة بالرموز والإشارات وبالتالي تعدد المعنى والدلالة ، والرواية ـ ككل الكتابات العرفانية ـ ما إن تعطيك معنى حتى تتفلت منك معاني أخرى ، مما يستدعي القراءة المتأنية من جهة ، والحيطة والحذر في التأويل من جهة ثانية ، والتسلح بكل المعارف الممكنة ( عرفان ، تاريخ ، تراث …) لصياغة تأويل مقبول للمكان ، أي ممارسة   ” افتراض المعنى ” ووجوب التحقق منه حسب تعبير تيزفيتان تودوروف ( 1939/2017)(30) ، فكل قراءة للنص الأدبي ما هي في الحقيقة إلا محاولة أولية مهما بلغت من الدقة والإتقان في انتظار محاولات أخرى وفهم آخر ، فالرواية ليست معادلة رياضية من الدرجة الأولى لا تقبل إلا حلا / قراءة واحدة ، وحتى و إن كانت الأنساق المكانية التاريخية الأسفية في رواية ” أنا النقطة ” ناجزة /جاهزة فيزيقيا فإن دلالاتها مستمرة والقيم التي تحيل عليها لا نهائية ، فالقيم بدلالاتها الاجتماعية والأخلاقية والروحية ” تنطوي دوما على سمات مكانية “(31) ، ومن تم فإن واقعية الأمكنة الأسفية لا يتنافى مع جمالية التخييل الذي أضفت عليه اللغة السردية البليغة المستندة على العرفان بهاء وأناقة بتكثيفها للإيحاء والرمزية ، كما أن هذه الأمكنة التاريخية الواقعية بتشبعها بالرمزية تحولت إلى أنساق إشارية لها أكثر من دلالة ومعنى ، ومعلوم أن عزل المكان التاريخي والتراثي عن دلالاته هو بمثابة ” ممارسة العنف على النص “(32) ، فخلوة الإمام الجزولي رمز للنفس الإنسانية ، وقصر البحر رمز للميلاد والتحرير وتقلب الزمان ، وتل الفخارين رمز للخلق وجمال الصنعة والإبداع الإلهي ، والبحر رمز للمطلق و اللامتناهي … وكأننا أمام عملية كشف الظنون واستراق المعاني ، فالروائية تنتقي المكان كما تنتقي العبارات ، فهي مدركة لدلالات المكان  وتشابهاته وتشابكاته بنفس درجة براعتها في صنع الانزياحات والاستعارات والمجازات ، وقديما قال أرسطو :” أن تكون بارعا في صنع الاستعارات يكافئ أن تكون متبصرا في إدراك المتشابهات “، وكل مكان يحمل في ثناياه دلالاته الرمزية قريبا أو بعيدا من دلالته في الواقع لإغراء وإغواء المتلقي وإثارة تفاعله مع النص الروائي ، خصوصا وأنها أمكنة ـ كما أشرنا إلى ذلك سابقا ـ  متنوعة الدلالة والايحاء ، فمنها أماكن ذات البعد الدلالي الإيحائي والرمزي( خلوة الإمام الجزولي ) ومنها ذات بعد العجائبي والغرائبي (عين لالة ميرة ) وذات البعد التاريخي (قصر البحر) وذات البعد التراثي والحضاري والاجتماعي ( تل الفخارين)… وهي كلها أماكن تتآلف وتتماسك وتتكامل داخل النسيج الروائي ، فخلوة الإمام الجزولي تكمل جغرافيا ودلاليا قصر البحر ، ومعمل النسيج يكمل تل الفخارين ، والكورنيش ووادي الشعبة يكملان البحر… مما أعطى للسرد والتخييل قوة وانسيابية ، كما أن العلاقة بين الشخصيات والمكان الآسفي هي علاقة ترابط وانسجام (البعد الايجابي والحميمي للمكان) وهو ما سهل على الروائية تفعيل أنساقها الفكرية والرمزية على اعتبار أن المكان يشكل دائما الأرض الخصبة لزراعة الأفكار واستنبات القيم وتوجيه الرؤى .

      بما أن المكان محرك أساسي ورئيسي لعملية السرد ومؤسس للحكي، وأن الرواية تخييل وليست تقرير ، فإن المكان الآسفي يتخذ وظائف دلالية ورمزية مفتوحة على آفاق تأويلية وتأملية متعددة ومتجددة ، فبفعل الانزياحات اللغوية ( بلاغة السرد) والخلفية العرفانية للروائية ( بلاغة الرؤيا) يخرج المكان من دلالاته الثابتة إلى دلالات رمزية جديدة ، فهو موضوع جمالي وفني ، معرفي وفلسفي ،روحاني وعرفاني ، منتج ومبلور للمعنى ( بلاغة المكان) ، وبلاغة المكان من بلاغة التخييل والصورة التي يتم بها تقديمه للمتلقي ، والخيال عندما يرتبط بالمكان فهو لا يلغي موضوعية الظاهرة المكانية ، أي كونها ظاهرة هندسية (33) ، وإذا كان بعض النقاد يعتقدون أن المكان في السرد لا يخضع لتلك التحديدات الفيزيائية الصارمة ولا يقيم سوى اتصال ضئيل مع الهندسة الاقليدية(34) ، فإن المكان الآسفي في رواية ” أنا النقطة ” حافظ على شكله الهندسي المعروف بحيث لم يكن هناك انزياح وصفي يحرف معنى المكان كما هو معروف ، وإنما كانت الانزياحات في اللغة السردية الواصفة وفي عمق الدلالات الرمزية  التي يمكن استخراجها ، فالصورة المكانية تتجسد جماليتها الحقة ” في إشراقها المبهر ، وفي كونها متجاوزة لكل معطيات الإدراك ” (35) ،لذلك فالروائية ـ وهي على دراية جيدة بدينامية المكان ودلالاته المتعددة ـ زاوجت في احتفائها / توظيفها للمكان الآسفي بين المكان ذي البعد المجازي / التخييلي / الدلالي وبين المكان كحيز فيزيقي وواقعي وتجربة معاشة ، فهذا المكان الآسفي اتخذ شكل تجربة جمالية يتقاطع فيها الجمال التاريخي والحضاري بالجمال الصوفي الرمزي ، بالجمال الطفولي المرح ، بجمال الطبيعة من رمال وبحر ووادي وطين… إضافة طبعا إلى الجمال الإبداعي من لغة وسرد وتخييل ووصف وحوار  ، وبهذا تكون رواية ” أنا النقطة ” رواية تحتفي بمفهوم الجمال والمشاهدة ، مشاهدة الجمال في عوالمه المختلفة وتجلياته اللانهائية ، هذا الجمال المكاني  اتخذ طبيعة مزدوجة ، فهو يحضر كحيز جغرافي فيزيقي مضبوط المعالم والإحداثيات (مكان واقعي /مكان محدد) ،ويحضر كمعنى ودلالة (مكان فني /رمز مجرد) ” ومن هنا كانت جماليات المكان جماليات تشكيلية وظيفية “(36) ، ومن شأن هذه المزاوجة أن تخلق متعة القراءة والتأمل والتأويل ، فالأمكنة الروائية  تستحوذ على اللذة الجمالية التي تعجز الأمكنة الواقعية عنها ، و ” تختزل النشاط البشري الإبداعي ، وتتسم بالديمومة وسهولة التواصل ، وإن المكان الفني مصدر لعلوم إنسانية مختلفة ” (37) ، وبالتالي فالتخييل هو أهم عنصر يطبع جماليات المكان ، ولهذا ميزت المدونة النقدية بين المكان الهندسي / الجغرافي والمكان الخيالي المطلق الذي يستطيع من خلاله المبدع الوصول إلى آفاق بعيدة .

     إن المكان الروائي لا يقرأ قراءة بسيطة / ساذجة ، فهو يحمل في طياته معاني استعارية وتأويلية عميقة ” تتشكل بصورة مباشرة أحيانا ، وقد تحتاج إلى جهد تأويلي وقراءة متماسكة لها قدرتها على متابعة التنظيم المشهدي ” (38) ، فالأمكنة المسرودة قد لا تتبادر دلالاتها إلى ذهن المتلقي مباشرة ، وقد تكون ” قناعا ” لدلالات ضامرة ومعاني ثاوية فيها الكثير من المجاز الذي تكمن شعريته في لا مرجعيته حسب أدونيس ، فهوـ أي المجازـ  يجدد الفكر واللغة ويجدد العلاقة بالأشياء ” إنه حركة نفي للموجود الراهن ، بحثا عن وجود آخر ” (39) ،وكلما ابتعد المتلقي عن المعنى الناجز للمكان كلما توسعت وتنوعت عتبات التأويل من المباشرة إلى آفاق الانزياح الرحبة لكشف حُجُب المعنى ، فسؤال المعنى هو أهم ما يُسْتكنه في الكتابة العرفانية ، والمعنى المتفلت سيبقى دائما في حاجة إلى تأويل وإعادة قراءة على اعتبار أن المكان يحمل دلالات تاريخية وحضارية وروحية ورمزية عاطفية ونفسية واجتماعية غنية بالمعاني ، فالأماكن في الكتابة العرفانية كرواية “أنا النقطة ” هي مقامات عرفانية (خلوة الإمام الجزولي رمز لمقام الحقائق والأسرار ، وقصر البحر رمز لمقام الولادة الروحية والانطلاق نحو العوالم الرحبة ، وتل الفخارين رمز لمقام التجلي ورؤية جمال الصنعة الإلهية ، ووادي الشعبة رمز لمقام النفس الهائمة أو الروح السارحة المعرضة عن السّوَى التي تسعى للفناء في العالم الأكبر(البحر) ، والبحر رمز لمقام الكشوفات والمرئيات … ولكل اسم أسماء كما قال النفري ،فالرمز “الذي يشكله المكان لا يفهم في إطار المعايير النحوية اللسانية ، وإنما يحتاج أن يرجع به القارئ إلى أصوله الأولى ، يُقصَد بذلك المعطيات النفسية من شعور ولا شعور وكل ما يعتري ذاتية المبدع من مشاعر تأبى أن تترجم في لغة تقريرية مفهومة ، فتتخذ لها قوالب الإيحاء والأقنعة ، لذا يجب على القارئ أن يتعدى حدود اللغة التقريرية حتى يربط جسرا بين الكلمة وخلفياتها ” (40) ، لكن ينبغي الإشارة إلى أن عملية التأويل واستكناه إشارية المكان لا تقوم مطلقا بإلغاء المعنى الأولي والمباشر للمكان ، فالتأويل قراءة ثانية لا قراءة لاغية ،قراءة نقدية لا قراءة نقضية ، أو بعبارة غاستون باشلار فالتأويل ليس ” قطيعة إبيستيمولوجية ” ، فلا شك لدينا أن د أسماء غريب تقوم بتشفير خطابها الروائي عبر الانزياحات اللغوية والتخييلية لتوليد دلالات ومعاني جديدة ، ومطلوب من المتلقي الحاذق إدراك بعضها أو جلها ، أي استنطاق النص وربط هذه الدلالات بالخلفية المعرفية والفلسفية للروائية التي تمنح للمكان دلالات مغايرة ، وسنقدم أمثلة عن بعض الأماكن التاريخية والحضارية والروحية في رواية ” أنا النقطة ” في بعديها الحقيقي والمجازي والعناصر المؤثرة في جماليتها .

1ـ خلوة الإمام الجزولي

     صرحت د أسماء غريب في المقدمة أن روايتها ” رواية جديدة تحتفي بمفهوم المشاهدة ، والمشاهدة عكس التفكير واللغة لأنها وعي صامت “(41) ونضيف أنها أيضا رواية تحتفي بالمكان في أبعاده المتعددة ، وجعلته منطلقا لإعطاء السرد قيمته ومرجعيته وجماليته ، وبما أن المكان هو أحد المداخل الأساسية لفهم الرواية ، فقد جسدت ” خلوة الإمام الجزولي ” مفهوم المكانية بقوة داخل المعمار الروائي ، وقد ارتبطت الخلوة لدى الشخصية الرئيسية  ” العالية الجيلاني”  بمرحلة الطفولة عبر التذكر ، والطفولة هنا تحضر بمعنيين : معنى ناجز / جاهز ويعنى المرحلة الأولى للإنسان ، ثم معنى استعاري / ثاوي ويعني الطفولة الروحية والبداية العرفانية / المعرفية ، كما تحيل الطفولة على البراءة وسلامة الطوية ونقاء القلب ( القلب الطفل)، و خلوة الإمام الجزولي ، كما سيرى القارئ ذلك ،هي المكان الذي استعملت فيه الروائية دينامية الخيال أكثر من غيره من الأماكن ، فكانت مركز تكييف الخيال وتكثيفه وانفتاحه على المطلق و اللامتناهي ، فهي مكان الألفة والعبادة والعزلة والصمت والتأمل والتذكر والحنين للماضي … وهي مكان الحضور العجائبي والغرائبي والأسطوري من خلال تكلم الغراب وتكلم الخلوة نفسها ” الخلوة تعرفك جيدا .. وقد حدثتني عنك كثيرا وأخبرتني بأمنيتك الدفينة ” (42) ، كما أن في مقام الخلوة يتكثف السرد عبر استحضار الحوار وخصوبة التخييل وانزياح اللغة ، ومن هنا تحصل الخلوة على جمالياتها ، والروائية تلافت ذكر التفاصيل الهندسية للخلوة من أبواب ونوافذ وحيطان وحجارة ومدخل … وكأنها تريده مكانا عارفا متجردا أُنْسِيَا ، والمكان الأُنسي هو ذلك المكان الذي ” تختفي أعمدته وأقواسه وغرفه وحجراته وأثاثه ، وكل شيء فيه ، وبالرغم من ذلك يظل جميلا رائعا ، واضحا من خلال حضور الإنسان فيه “(43) ، وتجريد الخلوة من الوصف الهندسي والزخرفي إشارة واضحة لدورها الوظيفي وهو كونها مكانا للتجرد من زينة الحياة الدنيا وزُخْرُفِها بالنسبة للمقبل عليها أو الداخل إليها ، فالروائية لا يهمها إبراز الجانب الهندسي للمكان بقدر ما يهمها استدعاء الرؤية المعرفية والعرفانية ، وجمالية المكان لا تكمن دائما في استعراض مباهجه وزخارفه ، وإنما في حضوره كتجربة روحية معاشة ، وجماليته هنا تكمن في مقدار ما يقدمه من قيم روحية وجمالية وفكرية وأخلاقية … وإن شئت فقل إن جمالية المكان تكمن في كونه يستدعي الذاكرة والحنين للماضي ، والذاكرة هنا مرتبطة بشكل قوي بالهوية والتاريخ .

    ” الخلوة ” هي أكثر الأمكنة التي استطاعت من خلالها الشخصية الرئيسة العالية الجيلاني ـ ومن خلالها الروائية ـ  التعبير بوضوح عن مشاعرها ومكنونات نفسها وفكرها وحتى طموحها ، ومن خلال رصد حضور ” الخلوة ” يمكن للقارئ رصد حقيقة إيديولوجيا الراوية ( نستعمل هنا مصطلح إيديولوجيا بمعناه الايجابي كمنظومة أفكار) ، ومن خلالها عمدت الروائية إلى تصعيد فاعلية التاريخ المحلي عبر استدعاء شخصياته وأحداثه ووقائعه ، ومن ذلك استدعاء أهم شخصية عرفانية وتاريخية عرفتها مدينة آسفي وهي شخصية الإمام أبي عبد الله محمد بن سليمان الجزولي (1404م/ 1465م) ، فالوعي بأهمية المكان تاريخيا وروحيا ورمزيا ” تدفع بالروائي أن يتناول موضوعا أو شخصية ذات صلة بالماضي التاريخي ، ففي كثير من المواقف يتحول خطاب التاريخ إلى مرجع معرفي مهيمن في إنتاج المتخيل السردي ، وحتى إن لم يذهب الروائي إلى التاريخ فهو يتنفس ضمن تراث سردي محكوم بدوائر تاريخية وتراثية لا يمكن الهروب منها ” (44) ، رغم أننا نعلم يقينا أن الروائية غير منشغلة بمساءلة التاريخ أو التراث بل ينصب اهتمامها على استنبات المعنى الكامن في توظيف المكان التاريخي أو التراثي .

  خلوة الإمام الجزولي كما أوردتها د أسماء غريب تشبه إلى حد ما صومعة الراهب عند غاستون باشلار ” إنها تعمق الذكريات التي عشناها … ويشع من هذه الصومعة العزلة المركزة ، كون من التأمل و الصلاة ، كون خارج الكون ، الصومعة تستطيع أن تستفيد من ثروات هذا العالم ، إنها تمتلك هناءة الفقر المدقع “(45) ، وإذا كان البيت كما في المدونة النقدية مرادفا للسكن ، فإن الخلوة مرادف للسكينة ، أو بعبارة أخرى إذا كان البيت مرادف للمكان ، فالخلوة مرادف للكمون والمكمن ، ففيها جلال العزلة وجمال التأمل ، وهي رغم محدودية طبوغرافيتها مكانيا وفيزيقيا فهي تتسع دلاليا وإشاريا لتصير عالما لاستيعاب الحالات الوجدانية والفيوضات الروحانية والتنزلات الرحمانية ، فالخلوة تناقض تماما ” المكان المهجور” كما حدده باشلار ، فهي مكان للتأمل والسفر الداخلي ونقل الإنسان من حالة الفحم إلى حالة الألماس حسب تعبير د أسماء غريب ، في حين أن المكان المهجور هو حيز للاختباء ” ينزع إلى رفض أو كبح أو حتى إخفاء الحياة ، أي أنه يصبح نفيا للكون “.(46)

   من خلال استحضار خلوة الإمام الجزولي عبرت الروائية عن العلاقة الحميمية بين الشخصية الرئيسية والمكان  ” الخلوة تعرفك جيدا ، فقد كنت تأتينها صغيرة لتخلدين للراحة كلما أتعبك الركض واللعب في قصر البحر ” (47) فتجَسِّد دور المكان الأَرْيَح ، مكان الراحة النفسية ومكان الاستشفاء الشعبي ، تقول العالية الجيلاني حاكية عن مرضها في مرحلة الطفولة : ” والدتي هي من كانت تأتي بي إلى هذا المكان كلما اشتد صراخي في الليل أو جافاني النوم ، كنت أجد المرأة لْحْفيظَة ، وكانت تأخذني من تحت إبطي وتدلي جسمي الصغير في الحفرة الموجودة تحت الخلوة مباشرة ثم تكسر لي البيض ، وبعد ذلك ترفعني إلى غرفة الخلوة نفسها وتكوي رأسي وجبهتي وتشرط معصمي وكاحلي بشفرة الحلاقة ، فيهدأ صراخي ، ويعود النوم ليداعب عيني ، فأنام في الخلوة لساعات طوال ، ثم تأخذني والدتي قريرة العين وقد شفيت من كل ما كان يؤذيني “(48) وتحضر الخلوة أيضا كمكان يفيض عرفانا وأسرارا ، بأحجارها وأشجارها ، بإنسها وجنها ، وحتى طيورها ، ويلعب التخييل دوره الجميل في رسم ملامح الخلوة ، يقول قيم الخلوة متحدثا إلى الشخصية الرئيسة : ” … سأعرفك بصديقي الغراب ، عارفا بالله يملك الكثير من الأسرار عن البحر وقصره وعن أئمة المكان وأوليائه الصالحين من الجن والإنس “(49) وهكذا تتحول الخلوة من مكان واقعي إلى مكان تخييلي يتحدث فيه الغراب ويصبح عارفا بالله وتتكلم فيه الخلوة ( المكان العارف بالله)، فنكون أمام معادلة ” بالمكان ينجذب الخيال ” (50) ، وحضور الغراب العارف بالله عند الحديث عن الخلوة إشارة إلى التكامل العرفاني بين الغراب والخلوة ، فكلاهما يرمز للحكمة والتأمل والعرفان، فالغراب هو الذي علم الإنسان (قابيل) طريقة الدفن ” فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي(51) والغراب يحمل معاني ودلالات عدة فهو رمز الحكمة ، ورمز الاغتراب (العارف بالله المغترب مكانا وزمانا ) ،وقد يكون رمز الأرواح المهاجرة ، فهل هي محاولة من الروائية لتنقل حكمتها للمتلقي عبر الخلوة والغراب ؟

     شكلت الخلوة مركز انجذاب وحنين وتذكر، فهي المكان الوحيد في الرواية الذي تعود الراوية لزيارته وتوطد صلتها معه ” وحينما انتهى الحفل وعَدته أنا وزوجي بأنني لا حتم سآتي يوما لزيارته في خلوة الإمام الجزولي ، وذاك ما كان بالفعل ” (52) ، وبما أن الخلوة  مكان يتداخل فيه الواقعي بالميتافيزيقي ، والواقع بالطموح ، فقد اقترحت الراوية تطوير المكان / الخلوة للتخلص من ماضي متوقف عن النمو والتطور في عالم يموج بالحركية والتقدم ، تطوير الخلوة والاستفادة من تجارب الشعوب الأخرى في رعاية الأماكن المقدسة ، فعوض أن تكتفي الخلوة بتقديم خدمات شبه طبية بسيطة وساذجة مثل الحجامة والكَيّ تقترح العالية الجيلاني تقديم خدمات طبية حديثة بالخلوة لتتكامل الأدوار : السلام النفسي مع العلاج الجسدي ، وهو الأمر الذي يحتاج ” إلى ثورة جديدة وصحوة أجد ” (53) ، صحوة / ثورة في الفهم والإدراك والتدبير اليومي لشؤون الحياة العامة ، صحوة تمتح من العلم وأسراره والوحي وأنواره ، وهنا يظهر طموح الروائية ورؤيتها للأشياء والحياة ، فالخلوة تشير إلى سوء الفهم مع الواقع وربما مع الذات نفسها / الإنسان الذي يحتاج لصمت وصيام وعزلة وتأمل … ليستعيد توازنه وتصالحه مع الكون والعالم ، والدعوة لتطوير الخلوة هي دعوة صريحة للالتحاق بركب الزمن الحالي المتطور والتخلي عن الماضوية فكرا وفعلا ، وبالتالي فالنظرة للمكان تصدر عن وعي جمالي يحاول تخطي الوعي السائد ،وهنا لا بد من الإشارة إلى أن التصورات التي ينجزها الإنسان حول التقدم والتخلف والحضارة ” ما هي إلا تصورات مكانية ترتبط بمنجز مكاني معين ” (54) ، والخلوة في سياق التحول الوظيفي والزمني انتقلت من مرحلة المقدس إلى مرحلة المدنس ،بفعل دوران الزمان وجور الانسان ، فأصبحت ” الخلوة كما ترين أضحت خرابا بعد سنين من الإهمال والنسيان ، وباتت مأوى المشردين والمتسكعين وقطاع الطريق ” (55) و ” الخلوة أضحت لشاربي خمرة العربدة اليوم ، بعدما كانت ملجأ لشاربي خمرة الله ، أهل حانة العشق الرباني “(56) ، إن الحالة الراهنة للخلوة وما آلت إليه من تدهور وتهميش ولا مبالاة تحيل بالضرورة إلى تهميش المدينة نفسها ، وكأن الخلوة تختصر الحالة العامة للمدينة ، ومن هنا نؤكد على أن المكان التاريخي أو التراثي يحمل دلالتين متكاملتين ومتقابلتين : الثابت (المكان) والمتغير (الزمن) ، وسطوة المتغير / الزمن على الثابت / المكان هو ما جعل خلوة الإمام الجزولي تنحرف عن وظيفتها المرجعية ومكانتها في النفوس من مكان للتعبد والتأمل إلى مكان مهجور يرتع فيه المعربدون ، وقد نجحت الروائية في إبراز العلاقة بين تغير وظيفة المكان (الخلوة ) وتغير طبائع الناس (اللامبالاة ..).  

     الخلوة ليست مكانا لإلغاء التراتبية الاجتماعية والفكرية فقط ، وليست مكانا لإنضاج الروح وإيقاظ خلايا التأمل والتفكير فقط ، بل هي رؤية فنية لإنضاج السرد الروائي أيضا ، ففيها يتم الحوار ( بين العالية الجيلاني وقيم الخلوة ) ، وفيها يتم التذكر والحنين وتكثيف التخييل ( تكلم الغراب العارف بالله، تكلم الخلوة ) ، وهي المكان الذي تتحدث عنه الشخصية الرئيسة أكثر من غيره من الأماكن ” فالسيدة العالية تتحدث كثيرا عن الخلوة وعن الإمام الجزولي وعن دلائل الخيرات ” (57) مما يجعل الخلوة مركز تبئير ومركز صناعة الفكرة / الرسالة الأساسية في الرواية ، وسواء كان المقصود هو المكان الحقيقي أو المكان الروائي المتخيل برمزيته وحمولته التاريخية والحضارية والروحية ، فالخلوة هي رمز القلب الذي يحتاج لقَيّم جديد (احْفِيظْ) يخليه من الخرافة والشعوذة ويهذب رعونات النفس ويضبط شهواتها وأهوائها ، كي ” يصل القلب  إلى مقام الاطمئنان والرؤيا فيشرب من الحوض الكوثري المحمدي مباشرة وأن يعرف أن الله حق وأن الحياة هنا وهناك صورة معكوسة في مرآة “(58) ،والخلوة قد تكون إحدى ضرورات العاشق لنور الله وجماله حيث الصمت والصوم والعزلة ليتأمل نفسه ويزكيها  ويلج إلى دواخل ذاته وينصت بعمق لأحاسيسه ، ويعرج بروحه إلى الملإ الأعلى ، تقول العالية الجيلاني :” علمني الولوج إلى ذاتي ، أن بداخلي توجد حديقة سرية حقيقية أكثر من الحقيقة ، إنها فردوس ليس لبهائه مثيل ، حينما أتجول بين أشجاره وأطياره وأزهاره اكتشف كم هو حزين أخي الإنسان ، إنه لا يعلم أن كل ما في الوجود يرقص ويغني إلا هو ، الكل في حالة استرخاء إلا هو ” (59) ، ومن تجليات ظهور أفكار الروائية من خلال الخلوة نجد مسالة رفض العالية الجيلاني المتكرر لتكون قيمة /( حْفيظَة ) للخلوة ،حيث لا ترضى أن تكون فرعا في حين أنها هي الأصل ، أو أن تكون تابعا وهي النبع ، فقد شبت عن الطوق ، وتجاوزت مرحلة الطفولة العرفانية ، واختارت لنفسها منهجا عرفانيا يستقي مباشرة من النبع المحمدي الأصيل ، فالخلوة مكان قد يصلح للذين أشرقت بدايتهم ، أما من كان يرتوي مباشرة  من النبع المحمدي النوراني ، ويغترف من معين الفيض الرحماني  ، فلا يَحُدّ قلبه الطائر المحلق في أعالي السناء والصفاء مكان ، تقول العالية الجيلاني : ” يا ابن آسفي ، إذا كنت من أهل الله حقا وحقيقة فليس من الضروري أن تكون صوفيا منتميا إلى طريقة ما من طرائق التصوف المختلفة والمتنوعة ، أما إذا كنت من أهل الله الملتزمين بالكساء المحمدي ، عندئذ سيكون كل انتماء من طرفك عيب وكذب وبهتان …ما الذي يجبرك وأنت حفيد من أحفاد الأسرة النبوية على التعلق بطريقة ما من طرق أهل العرفان والتصوف ؟؟ّ”(60) ، إن في القلب خلجات محبة وآهات عشق يضيق بها المكان ” ما يمسكهن إلا الرحمان ” وقديما قال الشيخ الأكبر :” وأما أهل الكشف فلا تصح لهم خلوة أبدا “(61) وهو ما عبر عنه فريد الدين العطار النيسابوري ( 1146م/ 1221م) في منطق الطير قائلا :” فإن تستطع سلوك الطريق إلى البحر ، فلم تلزم نفسك بالإسراع صوب قطرة الندى؟ فمن يعرف كيف يناجي الشمس بالأسرار ، فأنى يعاود الاكتفاء بالبقاء في ظل ذرة شعاع ؟ وكل من أصبح كلا فأي صلة للجزء به ؟ ومن أصبح روحا فأي صلة للأعضاء به ؟”(62) ،وهكذا تفصح تجليات جماليات المكان الآسفي عن المكنون النفسي والمضمون الفكري للروائية إذ ” ليس من السهل إلغاء عوامل المكان ” (63) ، ونظرا للدور المحوري للخلوة دلاليا وفنيا وسرديا فهي المكان الوحيد الذي يتم إعادة بنائه في العوالم / الأماكن الموازية للعالم / المكان الآسفي ، حيث تبني العالية الجيلاني في روما القديمة خلوة أخرى معتبرة أنه ” لا بد لكل كوكب من خلوة محمدية ” (64) لينتشر النور المحمدي المخرج من الظلمة والضلالة ” فلا بد من نور أحيي به الذي كان ، وأقذفه في قلوب الناس لتتحقق اليقظة ، ويسعى كل واحد للقاء وجه الإله الجديد ، وجه حنون رحيم ، وديع محب لكل الخلق ..” (65) ، وبالتالي فالقيم التي تنتجها الخلوة كمكان رمزي هي القيم المسيطرة داخل المعمار الروائي والتي قوامها المحبة والتسامح والوئام والفرح والحبور …

   رغم الحجم الصغير للخلوة في الواقع ، فقد كان حجمها الأدبي (الدلالي،  الفني والتخييلي …) كبيرا ، فهي تحمل من الدلالات والرمزية الشئ الكثير حتى استحقت أن تكون مركز تبئير داخل الرواية ، ونحن ” حين نمنح شيئا مكانا شعريا يعني أن نعطيه مساحة أكثر مما نعطيه موضوعيا “(66) ، وهكذا عبرت الخلوة عن بعض جماليات المكان الآسفي ، هذه الجمالية التي رأيناها من خلال اللغة الواصفة ومن خلال مشاعر الشخصية الرئيسية تجاه المكان ، ومن خلال الحنين والتذكر واسترجاع الزمن الماضي / الطفولي ، وكذا الرغبة في تطوير المكان ، لتوصل الروائية رؤيتها الجمالية والمجالية للمتلقي من خلال تقنيات السرد وصفا وتخييلا …فجعلت من المكان نسقا مرجعيا دالا ، وخطابا إشاريا ذا معنى .

2ـ تل الفخارين

    هو مجال سوسيو ثقافي غني بالدلالات الاجتماعية والرمزية ، مكان اجتماعي واقتصادي يلعب دورا مهما في تفعيل الأفكار وإنضاج السرد بالموازاة مع  إبراز العادات والتقاليد الاجتماعية لمدينة آسفي ، والمكان الاجتماعي يعني ” البيئة الاجتماعية ، وتشمل العادات والعرف والتقاليد ونوع العمل السائد في المجتمع ، وأثر الحضارة عامة على الفن “(67) ، وتل الفخارين أو تل الخزف بجمالية مشهديته وروعة إنتاجه يحيل إلى عملية الصنعة الأولى أي الخلق والإبداع الإلهي الذي ” خلق الإنسان من صلصال كالفخار” (68) ناهيك عن كون فئة الفخارين ، مثل الفلاحين تماما ، من أكثر الفئات تشبثا بالأرض وانشدادا إلى محيطهم ، تقول العالية الجيلاني :” والدي فنان قدير ، يعمل ليل نهار رغم صعوبة مهنته ، لكنه يحبها حبا جما ، كثيرا ما كنت أسمعه يقول إنه ابن الطين ، وإن هذه الرابطة القوية التي تجمعه بالطين تجعله يشعر كأنه يتشارك في البداعة التخليقية للكون ، لأنها تُذكره بصنعة الله في آدم ، كيف صنع طينه ، وكيف منه شكّله صلصالا لا فخارا ، وكيف بطبيعته الطينية هذه وهبه القدرة على الطيران والتحليق في سماوات الروح من أجل بلوغ سدرة المنتهى “(69)، ومسألة ربط مدينة آسفي وصلصالها وفخارها بفكرة الخلق الأول تناولها الكثير من الشعراء والأدباء ، يقول الأديب مولاي الطاهر الإدريسي الحسني (70):

” آدم من طين ،

وآسفي طين على طين ،

إذن آدم من آسفي “

وقال عنها الشاعر سعد جلال :

” الطين أصل الخليقة

والطين صنعة أسفي .”

ومما قلته في نفس المعنى في قصيدة حياك الله آسفي:

حيـــــــاك الـله آســــــــــــــفي                    وحـــــــيا مطلـــــــعك الوفـــــــي

هذا الطـــــين يهــــدي سلالته                     فخــارا وإبــداعا منــــكشـــــــف

ســــــحر الأنامـــــــل واللوالب                    ســـل إن شــــــــئت تـَـلّة الخزف

صلصــــــــــال آدم هنا منشؤه                    سبحان من بالإبــــــــداع متصـف

وقال عنها الزجال الآسفي سعيد الجيداني :

” آسفي الطين

وفي لوالبها

كان التكوين”

    ما دمنا بصدد الحديث عن الطين وقصة الخلق الأول وعن الفخارين والزواقين الذين يعملون وكأنهم في ” مختبر الله “(71) ، فهل نغامر ونقول إن حكاية تلك الشابة الباليرمية ( نسبة إلى مدينة باليرمو بايطاليا) التي قتلت حبيبها الفارس العربي وجعلت من جمجمته أصيصا تزرع فيه الورد وتسقيه كل صباح هي إحالة واعية على قدم الوجود الإنساني بمنطقة آسفي الذي أكدته الاكتشافات بجبل إيغود والعثور على أقدم عظام للإنسان العاقل (إنسان الهوموسابينس) والتي تعود لأكثر من ثلاثمائة ألف سنة ،نعم قد يشط تفكير الباحث في التاريخ قليلا أو كثيرا ، وقد يلتقط كل إشارة ممكنة ، وقد يبالغ أحيانا في التقاط هذه الإشارات ولو كانت غير مقصودة بتاتا ، لكن بما أن ” المدن هي البشر ، هي التاريخ” على حد قول عبد الرحمان منيف ، وبما أن الرواية هي سفر مفتوح على التأويل ، وإستراتيجية المكان هي ” استراتيجية تأويلية في جوهرها “(72) فتبقى كل التأويلات ممكنة ومنها التأويلات التاريخية ، على اعتبار أن التعامل التخييلي مع معطيات التاريخ يفرض على المتلقي ” مناخا تتحول فيه المادة التاريخية إلى محكي له طابعه الجمالي المتميز ، ومن هنا تتحكم قوانين إنتاج النص في تأويل المعرفة التاريخية “(73)

     الخزف والفخار من الحرف والفنون المرتبطة بالمكان مثله مثل العمارة والنحث والفسيفساء ، وموقع تل الفخارين بكل دلالاته الاستطيقية / الجمالية وحمولته الرمزية / الإشارية هو تعبير عن الجذور العميقة والمتأصلة في القدم والتاريخ ، فهو رمز للتخليق والإبداع ، ورمز للهوية والارتباط بالأرض  حيث لا حياد للمكان ” فالإنسان لا يحتاج فقط إلى مساحة فيزيقية جغرافية يعيش فيها ، ولكنه يصبو إلى رقعة يضرب فيها بجذوره وتتأصل فيها هويته ، ومن تم يأخذ البحث عن الكيان والهوية شكل الفعل على المكان لتحويله إلى مرآة ترى فيها (الأنا) صورتها “(74) ، فالمكان ليس حاضنا للشخصيات والأحداث فقط بل هو بوثقة للتراث والتاريخ والهوية والجغرافيا ، معه يتفاعل الإنسان ويبني علاقته الحميمية والمصيرية ، فالمكان إطار للهوية وإطار للذاكرة على حد سواء ، فكل فضاء جغرافي لا ينفصل عن دلالته الحضارية حسب جوليا كريستيفا (75) ، كما أن تل الفخارين يشكل تناغما رمزيا مع الشخصية الرئيسية العالية الجيلاني  ، فكلاهما (العالية والتل) يحيل على الارتفاع والعلو ، فالارتفاع يوحي بالحركة والسمو وسعة الرؤية ، كما يحيل على النقاء والصفاء والطهرانية والانطلاق الخلاق ، والعالي يحيل دوما على العمودي النازل من السماء إلى الأرض على شكل خيرات وبركات وأرزاق وأمطار … أو العمودي الصاعد من الأرض إلى السماء على شكل دعاء وابتهال وتضرع وتهجد … والعُلُو يوازي الاتساع ويتطابق مع الروحانية (76) ، فالطين في تل الفخارين في حاجة إلى الماء نازلا من السماء أو صاعدا من الأرض ، وفي حاجة إلى أشعة الشمس في الأعالي ليجف قبل أن يُطهى ، فهناك تناغم واضح بين العالية الجيلاني وتل الفخارين ، بين الشخصية والمكان ، وبين المدينة ” العارفة بالله”  وبين تل الفخارين ” مختبر الله” ومع البنية السردية العامة في الرواية ،  وتكتمل صورة الارتفاع / العلو في هذا الوصف المليء بالدلالات والمعاني ” لواء مدينتي كان مرفوعا في كل زمان ومكان ، وكل أبنائها كانوا ينتفضون ويلبون النداء ” (77) ، وبالتالي يصبح المكان منتج للمعنى والدلالة (بلاغة المكان) ، أي كونه ” عنصرا متحكما في الوظيفة الحكائية والرمزية والسردية”(78) وليس مجرد ديكور .

    من المعلوم أن المكان يلقي بظلاله على الشخصيات ، وخصوصية المكان تفرض على الإنسان ثقافة يمارسها ، بل إن المكان حسب يوري لوتمان يؤدي دورا كبيرا في تشكيل المفاهيم ، ففي تل الفخارين تعلمت العالية الجيلاني أصول صناعة الخزف رفقة والدها ” وحينما كبرت وبلغت العاشرة من عمري ، أصبح والدي أثناء العطلة الصيفية يريدني معه في معمله الصغير بتل الفخارين لأتعلم منه صنعة الأواني الخزفية “(79)، وعبر حديثها عن تل الخزف عبرت الروائية عن طموحها وحلمها في تطوير صناعة الخزف بالمدينة ” التحقت سنة 1982 بأكاديمية الفنون الجميلة بمدينة البندقية ، هناك كنت أحلم بأن أصل بصناعة الخزف المغربي إلى أرقى مجالات التقدم والتطور عبر الدراسة في أرفع المؤسسات الفنية والإبداعية في إيطاليا “(80) ،واستحضرت شخصية المعلم الخزفي الكبير السيد بوجمعة العملي (ت 1971) صاحب أول مدرسة لتعليم الخزف بالمدينة ،وكأنها تربط الحاضر بالماضي ، وتحدثت عن تل الفخارين بلغة مِهَنِية / لغة مكانية مضبوطة ( الزواق ، التسبيقة ، اللوالبية …) وكأنها عارفة بأصول المكان وتقنيات الحرفة ، وهو ما يعني حضور الوعي الجمالي بالمكان ، ومعلوم أن لغة المكان تسهم بشكل جلي في إنضاج الصورة الفنية للرواية وتعطيها زخما فنيا ينبئ عن معرفة كافية بأصول الصنعة والتمكن من أبجدياتها ، وبالتالي فنحن أمام ” المكان المنتج ” ، المنتج للمعنى وللقيم والأدوات ، و ” المكان المنتج هو المكان الذي يأخذ مواده الأولية من الطبيعة والإنسان وينتجها على شكل جماليات “(81) ، وبتحميل تل الفخارين بدلالات جمالية وإبداعية ورمزية تحاول الروائية تأسيس وعي جمالي جديد للمكان يوازن بين التمتين الجمالي والتثمين المجالي ، تمتين الدلالة وتثمين المكان ، فالذائقة الجمالية المرتبطة بالمكان يمكن أن تسهم في إيقاف النزيف المادي والقيمي الذي تعيشه المدينة (وربما العالم ) والذي قوامه اللامبالاة واهتزاز القيم وتسفيه التاريخ وإهمال التراث الحضاري وطغيان الفردانية والأنانية … على اعتبار أن المعمار الروائي هو عموما ” بناء من القيم يشيد بواسطة اللغة ” (82) ، وكأني بالروائية مرة أخرى تريد من المتلقي أن يعيش المكان كتاريخ  وليس كجغرافيا فقط ، كهوية وليس كحيز فيزيقي ، أي البحث عن روح المكان ودلالاته ومعانيه ،ومن المعاني التي ينتجها المكان / تل الفخارين قيمة التضامن بين الحرفيين ” في حفل العقيقة جاء لزيارتي كل أصدقاء عائلتي الصغيرة من نساء الحي ورجاله الفقهاء والعلماء ، وكذا أهل العمل في صناعة الخزف والنسيج ” (83) ، وقد أكد يوري لوتمان في كتابه عن بناء النص الفني ” بأن الإنسان يُخضِع العلاقات الإنسانية والنظم لإحداثيات المكان “(84) ، وبالتالي فتل الفخارين ليس حيزا مكانيا محايدا بل يشكل نسقا / شبكة من العلاقات الاجتماعية والاقتصادية القائمة على أساس التضامن ، ومنه فإن جمالية تل الفخارين يستمدها من تعالقاته الاجتماعية والإنسانية ، وأيضا من سلطة البلاغة والسرد الذي يتم به وصف هذه التعالقات ، ومعلوم أن الأمكنة تحصل على جماليتها وشاعريتها عندما تملأ مجالها ومحيطها بالتأثير، فتتحول هذه الأمكنة إلى مفاتيح للرؤية ، وبالتالي فالمكان ” معيار لقياس الوعي والعلائق والتراتبيات الوجودية والاجتماعية والثقافية “(85) وهو أيضا ” مجموعة من العلاقات الإنسانية في إحداثيات معينة ، هذه العلاقات هي التي تثبت وجودنا من أنفسنا ، وتجعلنا نشعر بجماليات خاصة ترتبط بحدود الإحداثيات التي تبعث فينا كذاكرة اشتراطية خفايا من المشاعر وحنين الزمن من الماضي على الحاضر ” (86) .

    تل الفخارين حيث يتشكل الطين في قوالب ويُزين بالألوان هو رمز الحياة وانبعاثها وتجددها ، هو رمز للخلق وبعث الروح ، فزخرفة الطين ونقشه وتزويقه يحيل بلا شك إلى الخلق في أحسن تقويم ، وتكسير الطين يحيل إلى المصير المحتوم للإنسان / الموت ، وأفران شواء الطين رمز للتطهير من الشوائب ، والطين هو تذكير للإنسان بأصله كي لا يتكبر :

نسي الطين ساعة أنه طين      حقير فصال تيها وعربد

وكسى الخز جسمه فتباهى      وحوى الكيس ماله فتمرد

  من خلال كل هذا يتضح أن المهمة الأساسية للرواية ” لا تكمن في التشويق وجذب القارئ وجعله منغمسا في عالم الفن ، بل تهدف إلى دفع القارئ إلى التأمل وإثارة الأسئلة “(87) ،وكل ذلك يعني أن هناك تناغما بين واقعية المكان وعملية التخييل ، وعموما فتل الفخارين هو رمز للرفعة التي عبر عنها الشيخ الأكبر ابن عربي ب “مقام القطبية وارتفاع الشكوك وعطاء المنافع في المولدات ” (88) ،وهو رمز إلى مقام الجمال ورؤية الحق في الخلق ، فالروائية ـ ككل إخوتها من أهل العرفان ـ ترى أن ” كل الأرض مكانا للكشف وإماطة اللثام عن العديد من الأسرار “(89) ،وصنعة  الفخارين تذكر بجمال الصنعة الأولى والخلق الأول  ، والتلذذ بجمال الصنعة إنما هو تلذذ بالمعاني القدسية في القوالب الحسية من عالم الأنفاس والأرواح كما قال ابن عربي (90) ،ولهذا تبقى أصدق التأويلات وأقربها للواقع ” هي التي تبقى في حدود البيئة الفكرية للمؤلف “.(91)

3ـ قصر البحر البرتغالي

    يحضر قصر البحر البرتغالي في رواية أنا النقطة كمكان لولادة الشخصية الرئيسية العالية الجيلاني ، والولادة هي خروج لحيز مكاني معلوم ، تقول العالية الجيلاني :” .. رأيت النور في مدينة آسفي باكرا ، لم أنتظر أن تبلغ والدتي شهرها التاسع من الحمل ، وكان أن قفزت من رحمها في الشهر السابع ، كانت وصديقاتها في نزهتها المسائية بقصر البحر ، حينما أحست بوخز شديد ووجع حاد في بطنها دام للحظات قصيرة جدا ، فسارعت صديقتها المقربة جدا إليها وذهبت إلى الحي المقابل للقصر حيث تسكن أسرتي ولم تَعُدْ إلا ومعها المولدة ، أربعون دقيقة بالتمام والكمال ، وإذا بي في حضن والدتي …”(92) ، ورغم تاريخية المكان ورمزيته بالنسبة للمدينة وساكنتها وشهادته على حقبة مهمة من تاريخ الوجود البرتغالي بالمدينة ، فإن الروائية غير منشغلة بالتأويل التاريخي للمكان ، فالسرد وتخليقاته يتعامل مع المكان التاريخي باعتباره مكانا للذاكرة ” حتى لكأن الكتابة الروائية عن التاريخ هي إعادة تشكيل للذاكرة  التي تستحضره “(93) ، وإذا كان قصر البحر بمعناه الهندسي والطبوغرافي يحتل مكانا استراتيجيا بإطلالته البهية على المدينة والميناء والبحر ، فإنه أيضا يحتل مكانا استراتيجيا داخل عملية السرد ، فهو المنطلق للحديث عن مدينة آسفي وأماكنها وأحداثها وشخصياتها ،بالإضافة إلى كونه مكانا لولادة الشخصية الرئيسية التي ستحمل لقب  بنت قصر البحر” قال الجميع : لتكن بنت القصر ، لكن والدي تدخل باسما وقال : سأسميها العالية ، لأنها ولدت في الجزء الأعلى من قصر البحر ، وبالقرب من البرج “(94) ، فشخصية مثل العالية الجيلاني لا يمكن أن تولد إلا في قصر تاريخي ورمزي ، وكأن المكان يحيل على المكانة ، والولادة في قصر البحر تحاول من خلالها الروائية تكسير نمطية المكان التاريخي الذي يتسم بالعزلة والصمت والصرامة وتعطيه مدلولا حيويا ، فلأي هدف رمزي وسردي ولدت العالية الجيلاني في قصر البحر دون سواه من أمكنة آسفي ؟ وأية دلالة إشارية يحملها قصر البحر البرتغالي ؟  

    مما لاشك فيه أن المكان ليس مجرد تأثيث خارجي في العمل الروائي ، وأن قصر البحر هو عنوان فترة تاريخية سوداء من تاريخ وذاكرة مدينة آسفي ، تاريخ مليء بصراخ الجنود البرتغاليين وهمجيتهم وبكاء الأسرى ودوي المدافع وأنين النساء الأبيات ، وصخب الأمواج الهادرة وهي تتكسر فوق الصخور .. والأهم من هذا هو أنه عنوان مرحلة ضعف انقسم فيها المغرب إلى مملكتين متصارعتين مملكة فاس ومملكة مراكش فأصبح غنيمة سهلة للمحتل البرتغالي الذي عاث فسادا في البلاد والعباد ، وعنوان مرحلة انقلب فيها الضيوف ( اليهود الميرانوس المهجرين من إسبانيا والبرتغال) على أصحاب الدار وتعاونوا مع المحتل الغاشم الذي نصَّب كبيرهم أبراهام بن زميرو قاضيا وحاخاما على الطائفة اليهودية نظير خدماته للتاج البرتغالي ، والجميل في قصر البحر هو كونه شاهدا أيضا على نهاية الاحتلال البرتغالي ، والنهايات لا تتشابه كلها ” بعض النهايات تكون فيها ولادات مشعشعة بالأنوار والخيرات والبركات “(95) ، وهذا ما حدث بالفعل مع مدينة آسفي عندما تحررت من الاحتلال البرتغالي حيث شهدت انطلاقة تجارية واقتصادية وعمرانية وروحية مهمة ، وقصر البحر حاضر في الرواية ليعطي للسرد مضمونا تاريخيا وأيضا ليقدم دروسا وعبرا من التاريخ ، وأول درس هو أن ” النعمة تجلب اللصوص “(96) .

       قصر البحر البرتغالي يزاوج حضوره في الرواية كمعمار هندسي وكرمز تاريخي وتعبير إشاري ، فهو رمز الولادة ، أي المكان الذي يمنح للذات فرصة ترسيخ وجودها في هذا العالم ، ومكان للجهاد ، وهو ” فضاء فارغ لكنه حي “(97) ، كما أنه لم ينزح عن دلالته المعروفة معماريا بل أضيفت إليه عملية الولادة ، مما يعني أن توظيف المعالم التاريخية والتراثية هو محاولة فنية لتثمينها سرديا وواقعيا ، وإعادة الاعتبار للذاكرة الجمعية وإغناء النص بالرمزية والايحائية المستمدة من التاريخ المحلي ، ومع ذلك وكما أسلفنا فالروائية لم تسمح بهيمنة الخطاب التاريخي في الرواية ، إذ ليس هدفها تقديم معرفة تاريخية وإنما تقديم سرد له ارتباط بالأماكن التاريخية لا بالتاريخ نفسه ، فعمل الروائي ينفصل عن عمل المؤرخ ، فالروائية تعيد صياغة وصناعة الأماكن التاريخية ” وهذه الصناعة لا تطابق الواقع مطابقة حرفية بل هي تشحن هذا الواقع شحنات مختلفة من المشاعر والأجواء النفسية “(98) ، وباستحضار قصر البحر كرمز تاريخي لمدينة آسفي فإن الروائية تعيد ” دمج الماضي مع لحظة الكتابة ، فيتحول الماضي التاريخي إلى إبداع وإلى وقفة جمالية خاصة تقلب التاريخ فتجعله ديمومة حضارية متواصلة في كيان البشر “(99) ، كما أنها بتوظيف هذه المعلمة التاريخية تكون قد عملت على تحويل المكان التاريخي من نسق التلقي الجاهز إلى فضاء جمالي ودلالي موحي ومفعم بالخيال ، ومعلوم أن ” الخيال هو القادر على إتمام ما لم يذكره التاريخ بناء على معطيات التاريخ نفسه “(100) وكأن الرواية تنتج دلالاتها المعرفية الخاصة بها من وراء توظيف المكان التاريخي والتراثي الذي يتطلب دائما قراءة مفتوحة و تأويل للوصول إلى الفهم ، فمعاينة التراث حسب بول ريكور ” تعني أيضا معاينة الوعي “(101) ، ومن الوعي معرفة أن المكان يمنح الشخصية هويتها داخل البناء السردي ، فالعالية الجيلاني ولدت في القصر ، دلالة على المكانة العالية والرفعة ، ومن هنا فإن جمالية المكان ترتبط أيضا من خلال ارتباطه بالشخصيات وحركتها فيه (ولادة ، تذكر ، حنين …) أو ما أسمته سيزا قاسم بالبناء الفوقي للمكان(102) ، كما أن من الوعي عدم التسرع في تأويل المكان خصوصا إذا كان هذا المكان تاريخيا والنسق عرفانيا مشرقا ، ومعلوم أن المكان عند العرفاء قد يتحول إلى النقيض فالسجن خلوة ومنحة ، والنفي سياحة ، والدنيا سجن … كما أن استحضار قصر البحر ( كمكان تاريخي ) يتماشى مع الزمن الماضي ( التذكر والحنين ) ، فالأحداث التاريخية المرادفة للقصر مثل الاحتلال البرتغالي والجهاد ضده ، الحضور اليهودي بالمدينة … جاءت متوافقة مع الطبيعة التاريخية والحضارية لمدينة آسفي ، فهي مدينة مفتوحة على التاريخ أكثر من انفتاحها على المستقبل ، كما أن حضور باقي الأمكنة التاريخية والتراثية ( خلوة الإمام الجزولي ، تل الفخارين ، عين لالة ميرة ..) يحمل الكثير من الدلالات الزمنية ويؤكد ما ذهبنا إليه ،وهو ما يعني أن جمالية المكان الآسفي تتشكل من خلال ثلاث ركائز وهي التاريخ والعرفان وجمالية اللغة الواصفة ، فالمدينة عبقة بأماكن تاريخية تمثل عصور وحضارات مختلفة خلفت آثارا ومعالم تشكل جماليات معمارية وفنية ، ويتم  استحضارها عبر التذكر الذي يعيد رسم الأمكنة وجمالياتها ويربطها باللحظات الحميمية والمشرقة في الحياة : لحظة الولادة ( الجسدية والروحية ) ولحظات الطفولة ( الجسدية والروحية أيضا ) ولحظات الفرح والهناء والانتصار .. ثم العرفان بلحظاته المشرقة حدثا ومكانا وشخصيات ولغة ، فمدينة آسفي طالما وصفتها د أسماء غريب بكونها ” مدينة عارفة بالله ” وكونها مدينة الأولياء والعرفاء ، وتعطيها بعدا وصفيا قائما على القداسة والتبجيل ، كما أن هناك تراسلا رمزيا بين مدينة آسفي العارفة بالله وبين الروائية التي”  رأت النور”  بالمدينة ،فكلاهما عارف بالله(103) يمتح من عالم النسك والزهد والقداسة والعرفان ، وإعطاء المدينة بعدا تقديسيا أمر طبيعي في عالم العرفان ، فالعارف تتفاضل عنده الأمكنة ، يقول ابن عربي :” فكما تتفاضل المنازل الروحانية ، كذلك تتفاضل المنازل الجسمانية … وهل ساوى الحق بين دار بناؤها لبن التراب والتبن ، ودار بناؤها لبن العسجد واللجين ، فالحكيم الواصل من أعطى كل ذي حق حقه ” (104) وقد أسلفنا عبارة ابن عربي حول العلاقة بين الأمكنة الشريفة والنفوس اللطيفة ، ثم جمالية اللغة الواصفة كدعامة أساسية في وصف المكان وتقريبه للمتلقي .

      قصر البحر البرتغالي هو المكان الوحيد الذي قدمت فيه الروائية بعض التفاصيل الهندسية :” أعود بذاكرتي إلى أيام حاضرة المحيط آسفي ، هناك ولدت في قصر البحر ، ابنة قصر لا ككل القصور ، تحفة معمارية فريدة من نوعها تجمع بين التاريخ والفن والهندسة العسكرية التي تؤرخ للوجود البرتغالي … يا قلعتي الشامخة ، أعرف حكاية كل صخرة فيك ، كل قوس ، كل قبو ، وكل ركن …”(105) ، ورغم أنها استعملت الوصف كتقنية سردية و” ممارسة نصية” ـ حسب تعبير فيليب هامون ـ لإبراز الأبعاد المشهدية للمكان ، فهي لم تتوقف كثيرا عند التفاصيل لأنها لا تريد أن تقدم خريطة طبوغرافية أو رسما تفصيليا عنه ،بل  تريد أن تشي بمعرفتها الدقيقة بالمكان وتعلقها به ( امتلاك المكان من خلال وصفه)  ، لأن الإغراق في تفاصيل المكان يؤدي إلى ” إلحاق التشويش بالرؤية المكانية الدقيقة “(106) ، والقليل من الوصف يكسب المكان ” بعدا توثيقيا دالا على الجمالية والواقعية والطبيعية “(107) ، وحتى وهي تذكر تلك التفاصيل القليلة عن قصر البحر فهي تفاصيل ضمن نظرة شاملة للمكان ، و” كل نظرة شاملة هي رؤية مطلقة ، وكل رؤية هي استغراق فكري روحي “(108).

     المعرفة الدقيقة بالمكان تحيل بلا شك إلى وضوح المعنى الوجودي للشخصية  ” تعلمت أنا أيضا ألا أكون يا عزيزي عبد الحق كالعديد من الفلاسفة يتساءلون من أين أتوا ، ويضيعون في عموميات الوجود ، فأنا غيرهم تماما ، لأني أعرف من أنا ، ومن أين أتيت وإلى أين سأمضي “(109) ، ولعل هذا الربط بين المكان والمعنى الوجودي هو ما أشار إليه جورج بولي George Poulet (1902/1991) في دراسته حول الفضاء البروستي إذ في تحليله لرواية ” الزمن الضائع” لمارسيل بروست ( 1871/1927) اعتبر أن جهل البطل بالمكان ومواصفاته يلتقي مع ، أو يعبر عن جهله بحقيقة وجوده (110) ،ولهذا اعتُبِر أن ” المكان يسهم في خلق المعنى داخل الرواية ” .(111)

     حضر قصر البحر كمكان مفتوح يجمع بين الحميمية ( كمكان للولادة ) ومرارة الاحتلال البرتغالي ، مكان مفتوح على البحر والسماء ، ومفتوح على الدلالات الاستطيقية والرمزية ، ومعلوم أن الأمكنة المفتوحة تساعد على ” الإمساك بما هو جوهري فيها ، أي مجموع القيم والدلالات المتصلة بها “(112) ومن هذه الدلالات الخاصة بتوظيف المكان التاريخي والتراثي  أن يحس المتلقي بدوران الزمان وتعاقبه وأخذ العبرة ممن ملكوا ثم هلكوا ، فالمكان يخلق المتعة ويخلق المعنى أيضا ( بلاغة المكان ).

4ـ عين لالة ميرة :

      توظيف الرمز الأسطوري / الميثولوجي  في العمل الروائي وربطه بالمكان والشخصيات يعد بنية جمالية هامة في تأسيس الخطاب السردي ويضفي بعدا جماليا على الفضاء الروائي ككل ، وأعترف أن هذه أول مرة يتم فيها توظيف أسطورة لالة ميرة في عمل روائي ، فلالة ميرة كمكان  هي عين ماء توجد شمال مدينة آسفي ، وتنسب لامرأة / شخصية ، وتحمل تلك العين المائية الجارية دلالات أسطورية وعجائبية وطقوسية عدة ، فالأسطورة كما تعبر عن طفولة التجربة الإنسانية فيما مضى ، فهي تعبر أيضا عن الطموح وتطلعات الإنسان في الحياة ، وتوظيف أسطورة لالة ميرة في رواية أنا النقطة هو توظيف متحكم فيه ( تخييل واعي ) ، حيث لم يجمح الخيال بعيدا إلى ضفاف اللامعقول أو الغرابة المطلقة أو المستحيل غير المنطقي ، فلالة ميرة التي لا يعرف أحد بالضبط من هي ولا في أي زمن عاشت لها ارتباط وثيق بالمكان ، فقد أطلق اسمها على عين الماء الجارية ، تقصدها نساء المدينة و الفتيات العازبات من المناطق المجاورة للإستسقاء والاستشفاء والنزهة وممارسة بعض الطقوس المرتبطة بالخصوبة والزواج … ” كل الفتيات كن يذهبن عند عين البركة والزواج والخصوبة ، ولالة ميرة كانت تسعد بهن كثيرا ، سيدة في غاية الجمال ، بعينيها الواسعتين الكحيلتين ، ويديها المخضبتين بالحناء ، وشفتيها المكتنزتين وقد زاد لون السواك جمالهما وسحرهما … من لا يعرف لالة ميرة وهي التي تحب أن تدخل البهجة بهباتها وطقوسها على النساء ، تحتفي بهن أفضل ما يكون الاحتفاء ، سيدة العطاء والخير لا توجد في مكان إلا هناك بآسفي المحبة والخيرات المتدفقة والكرم البهيج “(113) ، في عين لالة ميرة تتضح العلاقة الحميمة بين المكان والناس ، المكان المملوء محبة وخيرا وكرما وبهجة وسعادة ، وهذا الوصف المجازي المجنح الذي قدمته الروائية للالة ميرة جاء نتيجة تحرر التفكير من عجزه  وانفتاحه على الموروث الثقافي والأسطوري والذاكرة الجمعية لمدينة آسفي ” فالتفكير الأسطوري بإمكانه رسم معالم التاريخ المرتبط بالتفكير الجماعي الباحث دوما عن تجارب خيالية ، يستحضرها الاستباق اليوتوبي رغبة في الذهاب للمستقبل ” (114) ، وهذا لاستحضار لأسطورة لالة ميرة الذي مزج بين الصور الذهنية  المتخيلة (شخصية لالة ميرة) والصور الحقيقية (حقيقة المكان) هو ما يعطي للمكان جماليته وروعته داخل المتن الحكائي ، ويبقى الهدف هو إبراز المعاني الأخلاقية الخلاقة للمكان من خلال النبش في حضارة المجتمع وثقافته وتوظيفها ببراعة ، والإدراك الجمالي للمكان ” هو الذي يجعلنا نشارك المؤلف في عمله الفني ، وأن نعي حدود المكان والغائية من إعادة إظهاره “(115).

     إذا انطلقنا من فكرة هينري ميتران التي تعتبر أن المكان هو الذي يؤسس الحكي ، فإن عين ” لالة ميرة” وفضاءها المكاني وطقوسها العجائبية المرتبطة بالخصوبة والطفولة الفكرية هي مدخل للتخييل وبناء عالم رمزي طهراني غرائبي يستمد طهرانيته من تلك المنح والعطايا والهدايا الرمزية التي يقدمها لزواره ، ومن تلك الآمال التي تعلقها حوله القلوب الواجدة ، وقد تكون له فلسفته الثاوية التي تشير إلى الحب و الخير والجود والخصوبة المرتبط بعالم الأمومة / المرأة ، فالرمز الأسطوري الدال على المرأة يمتلك ” حضوره الأليف في الوعي الجمعي لما تشير إليه من توق دائم لرغبات الإنسان الكبرى : الخير والحب والرغبة والحياة … ومن تم تغدو المرأة تجل من تجليات الأم الكونية الكبرى / الأرض التي تحتضن الفرد ، وتعيد إليه التوازن من خلال الحب الذي هو بالأساس المحرك الأول للتاريخ البشري الخلاق “(116) ، فلالة ميرة تحضر في المعمار الروائي كرمز للمجتمع الأمومي الأول الذي كانت فيه المرأة هي المركز ، ومركزية المرأة عبرت عنها الروائية بوضوح في حوار قيم الخلوة مع العالية الجيلاني وهو يعرض عليها تولي منصب قيمة الخلوة ” ولأجل هذا أقول بأنه لن تكون في الكون امرأة أخرى أصلح لتولي شؤون هذا المكان منك ” (117) ، وربما لهذا  حضرت وليات آسفي الصالحات أمثال  فاطنة بنت مَحمد ولالة هنية الحمرية ولالة ميرة اللاتي أسمتهن الروائية ” حوريات البحار الأسفية وسيداته الصالحات ” (118) وكأن الروائية تحاول إضفاء طابع شبه تاريخي على الموروث الميثولوجي لآسفي من خلال ربط شخصية لالة ميرة الأسطورية بشخصيات نسائية عرفانية من عالم الواقع والتاريخ  (الإيهام بالواقع / الإيهام بالتاريخ) ، ومعلوم أن الإيهام بالواقع هو أحد أشكال جماليات التلقي التي تقتضي التركيز على الأبعاد الجمالية للمكان وشخوصه وتفاصيله وتاريخه .

      عين لالة ميرة الجارية ماء وحبا وكرما وخصوبة والتي تقصدها العوانس طلبا للزواج  ، والعاشقات طلبا للحب ، والعاقرات طلبا للأولاد ، والمتزوجات طلبا للنزهة … تجعلنا نكتشف تداخل المجالين الأسطوري والواقعي تحت سقف واحد ، فعجائبية المكان وغرائبيته (الخيال) لا تخفي جماليته وبداعته ( الواقع) ، وقد أحسن السرد في الجمع بينهما بلا تضاد أو تنافر (بلاغة الوصف وبلاغة اللغة) مكونا ضفيرة مجدولة من التداخلات الإشارية والرمزية التي تعبر عن التماثلات الرمزية بين المرأة / الأم والأرض / المكان ، وبالتالي يكتسب المكان جماليته ومعناه المتعدد ، وقد أضفت الروائية على المكان لمسات روحية نورانية وأخرى عجائبية أسطورية تمتح من عوالم الميثولوجيا تارة ومن عوالم العرفان تارة أخرى ، وكثفت لغتها الرمزية والدلالية مما يجعل القارئ يحس أن المكان هو شخصية ضمن شخصيات الرواية تتحرك وتنفعل مع الأحداث خصوصا عندما يتم إرجاع المكان إلى مسماه الأصلي ( عين لالة ميرة ، شاطئ لالة فاطنة ، لالة هنية الحمرية ..) ولعل هذا ما ساهم في تكسير نمطية السرد عبر إدماج البعد الرمزي / الصوفي الفلسفي بالأبعاد الحقيقية والواقعية والخيالية والأسطورية فيتحقق التنوع والمتعة ، وتصبح الجمالية إحساس مكاني ولذة لغوية قائمة على أساس البلاغة والتخييل (بلاغة المكان الموصوف وبلاغة اللغة الواصفة ) ، أي أن الجمالية تتجسد بالمزاوجة بين وصف الأمكنة الحقيقية في أبعادها الفيزيقية واستخدام اللغة البلاغية والإبلاغية التي تحمل في طياتها الكثير من الانزياحات والدهشات ويمكن أن نضيف جمالية التلقي عند القارئ النبيه .

    عبر شخصية لالة ميرة الخيالية استدعت الروائية جانبا تراثيا مشهورا بآسفي  وهو غناء العيطة الشعبي عبر استدعاء إحدى رموزه الشهيرات وهي فاطنة بنت الحسين ( 1935ـ2005) تقول :” لالة ميرة تحب الشيخات ، والشيخة فاطنة بنت الحسين تعرف هذا جيدا ، هل تتذكرها فاطنة يا عبد الحق ؟ عرفتها صغيرة كانت تأتي للغناء في بيت الطفولة هي وأولاد بن عكَيدة ، وفي كثير من الأحيان كنت أصادفها واقفة في الصباح الباكر أمام دكان الحليب القروي تنتظر أن يأتي دورها لتشتري الحليب والزبدة الطرية …آآآه يا عبد الحق ـ تذكر فاطنة وأنت في كوكبك موسيكاينو ، ابن لها تمثالا ، واجعل من عشقها للعيطة أسطورة ، فإنها تستحق منك ذلك ، فإذا نسيها أهل الأرض ، فتذكرها أنت ، واذهب لزيارتها من حين لآخر ..” (119) وعبْر هذا الاستدعاء لفن العيطة الشعبي وأيقونته فاطنة بنت الحسين تكون الروائية قد ربطت بين جماليات المكان وجماليات التراث .

5ـ الكنيسة الاسبانية

    تحضر الكنيسة الاسبانية في الرواية كأحد الأدلة العمرانية الشاهدة على انفتاح المدينة على الآخر ، فهي رمز لهوية منفتحة ومستقبلة للغرباء من مختلف الديانات والمذاهب والأعراق ، ورمزا شاهدا على تعدد الحضارات الوافدة على مدينة آسفي قديما وحديثا ( قرطاجيون ، بربر ،عرب ، أندلسيون ، برتغاليون ، فرنسيون ، إسبان ، يهود ، مسيحيون …) فهي أرض كما قال عنها القاضي أبي المطرف ابن عميرة المخزومي الأندلسي (  1186م/1260م) ” إنها أخصب الأرجاء وأقبلها للغرباء” ، ومن كرمها أنها تقبل تعدد الأديان والمذاهب حتى قال عنها الوزير الدين لسان الدين ابن الخطيب الغرناطي ” ظاهرها مالكي وباطنها حنفي ” لذلك كانت آسفي مدينة النور التي تتلقى الفيض وتعيد توزيعه ، وتكون كلماتها للعالمين أجمعين حبا ورفقا وتعايشا ولقاء ، فهي ليست مكانا للعيش فقط بل هي حالة وجدانية أيضا، لذلك كان الخطاب الأسفي في الرواية عرفانيا مشرقا  ” …فيا أيها البلبل العاشق لا تبن لك عشا في غير عرصات المعاني الهاهوتية ، ويا هدهد سليمان المحبة ، في غير قلب بلقيس لا تتخذ وطنا ، ويا عنقاء اللقاء في غير قاف وقفة الألف لا تقبل مكانا ، أنا نقطة صاحب المغارة ، نقطة آسفي ، فلا تحلق إلى اللامكان ، ولا إلى اللامقام بأجنحة النار والنور ” (120) ، فاستحقت المدينة بانفتاحها الحضاري والروحي وسموها العرفاني أن تكون كعبة العارفين وكهف العاشقين وسرادق الوالهين ومحج الواجدين وقبلة عباد الله الصالحين من أهل التصديق واليقين ، لذا تخاطب العالية الجيلاني ابن المدينة قائلة  :” يا ابن آسفي خَبِّر أهل اليقين وقل لهم إن مدينتي روضة جديدة قد ظهرت بالنقطة في فضاء القدس قرب جنة الرضوان يطوف حولها جميع الملإ العلى وهياكل الخلد الأعلون “(121) ، وهكذا تحضر مدينة آسفي بكل تجلياتها العرفانية والنورانية ، وبكل أبهتها الجمالية والروحية  ورمزيتها الدلالية والاشارية، وهو ما يجعلنا نؤكد أن المدينة تحضر في الرواية كتعبير ثقافي وحضاري وروحي وليس كوجود سياسي ، وقد عبرت مقولة ” آسفي المدينة العارفة بالله ” عن التصور الفياض للروائية حول المدينة ووعيها المشرق تجاه تاريخها وجغرافيتها وأعلامها ومعالمها .

    بما أن استراتيجية المكان الروائي ” هي استراتيجية تأويلية في جوهرها ” (122) ، وبما أن الرواية بقدر ما تنتج سردا فهي تنتج بموازاته لغة إشارية وعلاماتية لا تفهم بالطريقة المتداولة / المباشرة ، وبما أن النص الأدبي العرفاني لا يبوح بمعناه دفعة واحدة ، فإن الكنيسة الاسبانية قد تحضر في الرواية كرمز لحكمة عيسوية المحتد ، وخرابها (استشهاد العمران) وعدم الالتفات إليها هو عنوان خراب الأرواح في عالم الماديات ، وهو صورة ” المحو “و” الحذف” الذي يمارسه الزمن على المكان ، تقول واصفة ما حل بالكنيسة الاسبانية : ” … ولا تنس أني كنت شاهدة على سقوط العديد من المعالم والمآثر في الكثير من مدن الأرض بما في ذلك الكنيسة الاسبانية التي سقطت في المدينة القديمة بآسفي ، وسجلت حرفا آخر في سجل الإهمال والنسيان ، آآآه يا هوشيتو كم من الكنائس رأيت ساقطة ومنهدمة “(123) ، وتعطل دور الكنيسة ووحشتها في المكان  يذكرنا بقول ابن عربي في وصف أسقفة الروم (124):

أسقفة من بنات الروم عاطلة     ترى عليها من الأنوار ناموسا

                 وحشية ما بها أنس قد اتخذت     في بيت خلوتها للذكر ناووسا

 وبما أن المكان ” حامل لمعنى ولحقيقة أبعد من حقيقته الملموسة ” (125) وأن الأماكن هي مقامات الحياة ، والمباني تفيض معاني ، فإن الكنيسة الاسبانية تحضر أيضا كرمز للقلب المتقلب في معارج المقامات النورانية والتجليات الإلهية وواردات التقديس والرضى التي عبر عنها الشيخ الأكبر ابن عربي بقوله :

لقد صار قلبي قابلا لكل صورة   فمرعى لغزلان وديرا لرهبان (126)

    إن الانفتاح الحضاري والروحي لمدينة آسفي والذي تجسد معماريا في  الكنيسة الاسبانية هو قدر المدينة واختيارها ، مما جعلها أقرب إلى         ” المدينة الفاضلة ” ، وكأن آسفي تحاول انتزاع التفرد والتميز مما يجعل المكان وتشكلاته العمرانية لا ينفصل أبدا عن الدلالات الحضارية للمدينة .

      حضرت الكنيسة الاسبانية كمكان تاريخي ورمزي يرصد لحظات التحول العميق للمجتمع الآسفي ، تحولات في الاهتمامات والأولويات ، والقيم والأفكار ، فالكنيسة التي تحولت بفعل دورة الزمن من أثر عمراني تاريخي شاهد على مرحلة مهمة من تاريخ المدينة إلى طلل يندثر شيئا فشيئا دون أدنى اهتمام بترميمه أو إصلاحه ، هو كناية عن تحولها الرمزي من صورة الخطاب / الكلام إلى صورة الخرس عن الجواب على حد تعبير ابن عربي ، فالكنيسة تحولت من مرحلة الشهود إلى مرحلة الإستشهاد ، ونفس الكلام ينطبق على خلوة الإمام الجزولي وقصر البحر .. وكأن الروائية تُشاكل بين الفعل الروائي التخييلي الفني والواقع المعاش بكل مرارته وقسوته عبر التخييل الواعي ، أو ما أسمته د يمنى العيد بإحالة النصي / المتخيل على المرجعي / الواقع المعيش (127) وهو ما يسمح منهجيا برؤية أثر المرجع الحي أي الزمن الحاضر في بناء عالم الرواية المتخيل فنيا ودلاليا (128) ، الأمر الذي يجعلنا  نؤكد مرة أخرى أن فهم المكان يؤدي إلى فهم الذات ، والكنيسة الاسبانية لا تحضر كمكان له ارتباط بأي من شخصيات الرواية ، وإنما حضورها يأتي لتأكيد وإبراز الدور الحضاري المنفتح  للمدينة قصد مغالبة لعبة النسيان المفروضة عليها ، هذه المدينة المثقلة بالتاريخ وشواهده والتراث وقيمه، والحضارة وآثارها ، لكن للأسف الشديد ” ينسى الإنسان بسرعة كبيرة تاريخه وأمجاده “(129) ، وتحضر الكنيسة الاسبانية بواقعها المتدهور كوسم ورسم ، وتيمة مكانية وقيمة حضارية مشحونة بالدلالات والرموز والإشارات الحسية والروحية والتاريخية لتفتح أعيننا على واقع التهميش المجالي والتدهور الجمالي لمعالم المدينة التاريخية والحضارية والتراثية، فتصبح الكنيسة رمزا صارخا لإهدار جمالية المكان ، وكما أسلفنا فالمكان  يخلق المتعة و يخلق المعنى ، والروائية تحاول أن تقدم ” أشكالا من الوعي الاجتماعي والحضاري والتاريخي إزاء المكان “(130) ، فلا حياد للمكان لأن ” لكل جزء من الأرض روحانية علوية تنظر إليه “(131) ، وكل مكان يخلق دلالاته الخاصة ، وكل اشتغال على المكان هو بمعنى ما إبراز لجماليته أي ” قدسيته ” .

    إن الخراب والاندثار الذي أصاب الكنيسة الاسبانية بآسفي يجسد سطوة الموت / المحو وسلطة الفناء بكل معانيه المادية والروحية ، وهذا الخراب هو عنوان على أن الخراب يفقد المكان وظيفته الجمالية والرمزية خصوصا إذا كان هذا المكان رمزا تاريخيا يحمل في طياته ذاكرة السنين ، أو رمزا دينيا شاهدا على حقبة جميلة من العيش المشترك .

 

ثنائيات المكان الدلالية والجمالية

      تحيل الأمكنة في رواية ” أنا النقطة ” على ثنائيات نسقية دلالية وجمالية متعددة قد تتكامل أحيانا وقد تنتقل من النقيض إلى نقيضه حينا ، وهي ثنائيات لا تخلو من رمزية وتشفير تدل على ثنائيات أكبر في الحياة من فراغ وامتلاء ، قرب وبعد ، حضور وغياب ، وقبول ورفض ، حذف و ترك… فقصر البحر البرتغالي يحيل في مستوى أول على فترة قاتمة من الاحتلال والحرب والاستغلال … لكنه في المقابل يحيل على ثورة تحررية جهادية عارمة شهدتها المنطقة توجت بطرد المحتل وتحرير المدينة التي شهدت انطلاقة اقتصادية واجتماعية وفكرية .. كما أنه يحيل على المكان المغلق المسور بالأبراج والأسوار، وهو في نفس الوقت مفتوح على البحر والسماء والعوالم المطلقة واللامتناهية ، وخلوة الإمام الجزولي تحيل على المقدس والمدنس في علاقة المجتمع الدينية والدنيوية ، القداسة في مقابل الخرافة ، والحضور في مقابل الغياب ، والعرفان في مقابل الجهل ، والأمان في مقابل الخوف ، والجمود في مقابل التطور … وتل الفخارين يحيل على الإبداع وجمالية الخلق وروعته في مقابل سهولة الكسر ( تكسر الطين هو تكسر الإنسان في زيغه عن الصراط المستقيم ) ، وكما يحيل على إبداع الحرفي وجمالية صنعة الصانع التقليدي فهو يحيل على هشاشة وضعه المادي …

    هذه الثنائيات المتقابلة موجودة أيضا في علاقة الأمكنة مع بعضها ، فإذا كان قصر البحر بموقعه المتطرف على البحر أصبح مهجورا أو عرضة للانهيار فإن تل الفخارين يشكل خلية نحل قائمة على العمل والجد والتعاون والإبداع  ، وإذا كانت خلوة الإمام الجزولي تمثل القداسة والسكينة والهدوء والعزلة فإن الكورنيش في المقابل يمثل رمز الإقبال على الحياة والتنعم بها ، ووادي الشعبة بقدر ما يدل على الخصب وتدفق الحياة فهو يحيل على ما تختزنه الذاكرة الجماعية الأسفية من كوارث وفياضات وأهوال خلفها هذا الوادي ، إضافة إلى ثنائيات أخرى حاضرة في الرواية لا تقل أهمية من قبيل المكان المفتوح مقابل المكان المغلق ، والمكان الروحي / الديني  مقابل المكان الدنيوي … وهي ثنائيات قد تنتج تقاطبات دلالية أخرى مرتبطة بالمكان الآسفي : روحي / مادي ، عزلة / اختلاط ، قدرة / عجز ، خاص / عام (132) ، وهو ما يعني أن مفهوم ” الثنائية الدلالية والجمالية ” كما طرحه غاستون باشلار و يوري لوتمان  قد يصح أن يكون آلية لقراءة ودراسة المكان في رواية أنا النقطة خصوصا إذا تم تطويره نقديا وتوسيع مداه ليشمل العلاقة مع الشخصيات والحدث والسرد والزمن …

وأخيرا

    تمت مقاربة جماليات المكان الآسفي في رواية النقطة عبر استحضارها كشاهد على التاريخ وعلى الغنى الحضاري والتراثي والروحي للمدينة ، وهذا الاستحضار أغنى السرد وأثراه ، فجعل ذاكرة المكان تختزل وتختزن التاريخ والأشخاص والأحداث ، وأيضا الطموحات وحتى الإخفاقات ، كما أن تعدد الأمكنة في الرواية ( قصر البحر البرتغالي ، تل الفخارين ، الكنيسة الاسبانية ، خلوة الإمام الجزولي ، وادي الشعبة ،البحر …) يحيل إلى تعدد الأمم والحضارات التي مرت بآسفي وما زالت آثارهم شاهدة عليهم ، كما أنها أمكنة تشكل إحداثيات هندسية للمدينة العتيقة بآسفي ، وكأن الروائية ” تقوم باعتلام Repérage)) أمكنتها قبل أن تتهيأ للكتابة .” (133) ، ولا يفوتنا أن نذكر أن الأمكنة التاريخية والتراثية المسرودة كلها منفتحة على مكان تاريخي أكبر وأعمق وهو البحر المحيط ، وكأنها منفتحة على المطلق واللامتناهي ، وتاريخية البحر المحيط وتأثيره في تاريخ وهوية وحضارة آسفي أكبر وأشمل من أن نحصره في مقالة مبسطة ، ويكفي أن نقول أن البحر كجزء من الجغرافيا السائلة لمدينة آسفي يحضر كتمثلات ذهنية مشبعة بالدلالات العرفانية العميقة ، فهو يحمل من الدلالات أقواها ومن الرموز أوسعها ومن الإيحاءات أشدها ، فهو رمز للشيء العظيم اللامتناهي ، ورمز للقوة والجبروت ، ورمز للجود والكرم ، كل يغرف منه حسب استعداده وأمداده ، كما أنه رمز للطبيعة وصفائها ،وللروح وطهارتها ، ورمز للقلب وتقلبه، وهو ” أب المدينة ” و” آسفي بنت الاطلنتيد ” ،وهو مصدر الأساطيل والأساطير ،  يحيل على الأبدية واللامحدودية ، فهو(عارف ) ” البحر يعرف كل شيء “(134) و ” الأمواج تعرف الحكايات ، والبحر رأى كل شيء “(135) ، ويحضر البحر كعمق استراتيجي وبنية خلفية جمالية لكل من قصر البحر وخلوة الإمام الجزولي ، ناهيك عن كونه يقوم ” بدور حيوي على مستوى الفهم والتفسير والقراءة النقدية “(136) ،وقد قدمت الروائية البحر في سكونه وهدوئه وخشوعه ، مما جعله يمثل انعكاسا للروح الهادئة والوديعة للروائية ، وإلى جانب البحر حضر ” وادي الشعبة ” بكل دلالاته وحمولته الرمزية ، ويكفي أن نقول أن مدينة آسفي قد استمدت اسمها منه ، فآسفي مشتقة من (أسيف) الاسم الأمازيغي للوادي ، وبالتالي فالوادي ليس مصدر جمال جغرافي فقط ، بل مصدر جمال طوبونيمي  Toponymique ” فيصبح النهر دنيا جديدة ، كشف جديد “(137) ، منظر وادي الشعبة وهو يجرى معرضا عن ” السِّوى” ليفنى في البحر المحيط ورجوع الماء إلى أصله  ومنبع وجوده، في رحلة قد تطول أو تقصر، هو رمز لرحلة الإنسان فوق الأرض ، رحلة الطين فوق التراب ،وهو رمز يحيل على الطريق والمعراج الروحي نحو المطلق واللامتناهي ، إن فناء القطرة في الماء هو كفناء الناسك في حب الله تعالى ، فالوادي يسير نحو البحر شوقا وعشقا ، عشق الماء للفناء في الماء .

   من خلال كل ما قلناه سالفا ، هل نغامر فنقول أن النقطة الواردة في عنوان الرواية هي نفسها مدينة آسفي بكل تجلياتها الروحية والتاريخية والحضارية والجغرافية والعرفانية والرمزية … فيتحول العنوان من ” أنا النقطة ” إلى ” أنا آسفي ” ، ألا يوحد العرفان بين النقطة والمدينة العارفة بالله ؟ ألا نمثل المدينة على الخريطة بنقطة ؟ ألم تصرح الراوية بكل وضوح ” لأنني ابنة أطلنتيد فأنا النقطة ، آسفي الاطلنتيدية سيدة الجنان “(138) وتعلن بلا مواربة ” أنا نقطة صاحب المغارة ونقطة آسفي “(139) ، ومعلوم أن مدينة آسفي هي بنت البحر الأطلسي / الأطلنتيد وحاضرته كما سماها ابن خلدون .

     وإذا كانت النقطة تفيض عطاء ومعاني ورموز فآسفي تفيض أيضا خيرات وبركات وعطايا ، فهي أرض النور والتنور ، أرض العرصات والبساتين ، أرض الجنان والسواني ، سواني الأرض وسواني القلب ومروجه ، جنان الأرض وجنان الروح المطهرة بنور الحي القيوم ، لهذا كان النداء عرفانيا :” يا ابن آسفي ، في سانية القلب غير رمان العشق لا تزرع ، وتزين بأعمالك لا بأقوالك ، واعلم أنه بينك وبين حوض القرب البديع وشجرة العشق المنيع خطوة ، فاخطها وادخل إلى سرادق الخلد ثم استمع إلي واقرأ ما أخطه لك بقلم المجد … يا ابن آسفي لا تلوث بصرك بالنظر إلى الأغيار ،تر بهائي وجلالي ، وكن أصم عن كلام السفهاء تسمع صوتي البهيج ، وكن جاهلا بعلوم الحمقى يكن لك من علمي نصيب ، وكن فقيرا تغترف من بحر ثرائي الخالد عسلا لا زوال له حتى تدخل ساحة قدسي بعين طاهرة وقلب طيب وأذن نظيفة “(140) ، وهذه النقطة حتى وإن تخلفت عن الإدراك العادي فسيكون تأويلها وفك إشاريتها مطابقا لموقع جغرافي ما ، فهي ليست هُلاما في عَماء ، ولا هباء في هواء ، بل يقتضي وجودها حيزا ما ، فالنقطة تقتضي الحرف ، والأنا تقتضي المكان ، رغم أنه ” في الكتابة الصوفية تذوب الأنا واللاأنا في حركة جدلية تحول الإنسان نفسه إلى حركة من استبطان الوجود والتماهي مع أسراره “(141) ، فكلمة ” أنا ” إشارة إلى هوية موصوفة بالتميز والفرادة ، و إشارة إلى سيرة وهوية مدينة أنصفها التاريخ وأهملها الحاضر ، فكانت نقطة حاضرة في الزمان والمكان تتلقى الفيض وتعيد توزيعه .

وهل نغامر مرة أخرى فنقول إن الشخصية الرئيسية ” العالية الجيلاني ” هي نفسها مدينة آسفي !؟ 

ألم توصف آسفي بأنها تقع على ربوة عالية !؟

 أليس اسم العالية يحيل إلى المقام العلوي لمدينة آسفي و قداستها   و ولايتها وطهرها وأوليائها وولياتها وأضرحتها..؟

أليس عشق العالية الجيلاني للطين في تلة الخزف منذ صغرها هو دلالة على ارتباط المدينة منذ القديم البعيد بالطين والصلصال ؟

أليس عشقها للبحر وولادتها بالقرب منه دليل على ارتباط المدينة بالبحر حتى لقبها ابن خلدون  بحاضرة البحر المحيط ؟

ألم تقل العالية الجيلاني واصفة مسار حياتها بأنها ” بين الطين والصوف والبحر والرمال والأمواج والسمك كبرت ” ؟(142)

أليست شخصية “العالية الجيلاني” المثقلة بالرموز هي نفسها آسفي المشبعة بالإيحاءات والدلالات على اعتبار أن استراتيجية الكتابة الروائية  هي تعريض المكان لآليات الانزياح اللغوية والتخييلية من أجل إعادة صياغته وإنتاجه في صور وقوالب  متغايرة حتى تظهر وظيفته الجمالية والدلالية والإشارية  ؟

أليس تأنيث الشخصية الرئيسية هو انعكاس  لتأنيث المدينة من أجل إضفاء خصوصية جمالية تؤطر خيراتها وتعيد صياغة بهائها تطبيقا لمقولة الشيخ الأكبر ” كل ما لا يؤنث لا خير فيه ” !؟

   إن شخصية  العالية الجيلاني هي نفسها مدينة آسفي ” أم القوى الخلاقة ، إنها النقطة وكفى ، تكتب الأشعار ، وترسم الأنهار ، وتنشر الأزهار ، إنها شمس العرفاء والأولياء والصديقين والنجباء ، تكون حاضرة في كل الأكوان وبشتى الصور والأزمان ولا يعنيها من يتشبه بها من الأوغاد ، ولا من يسرق كلماتها وينسبها إليه ، ولا من يسعى إلى تدمير عرشها من عتاة الضالين ، الراكضين وراء جنون الدجل والشعوذة ، ملكة متوجة بيد الرحمان ، ويدها بيضاء لا شية فيها ، وعصاها ثعبان يلتهم كل حبال السحرة الفجرة الفاسقين في ساحات الفراعنة الغاوين المضلين “(143) ، العالية الجيلاني الأسفية تأخذ شكل مدينة آسفي كلما تطور السرد ، فهي العالية التي ولدت في قصر البحر البرتغالي ، ولعبت في طفولتها في خلوة الإمام الجزولي ، وتدربت على صناعة الخزف رفقة والدها في تل الفخارين ، واستكملت مهارتها في معمل النسيج رفقة والدتها ، تحن إلى الخلوة وتزور أولياء الله الصالحين وتستذكر التاريخ وأمجاد الماضي ، تستنشق هواء البحر وتستحضر حورياته الآسفيات الصالحات العارفات ، ولا يمكن أن تتجسد مدينة آسفي إلا في صورة امرأة.

وهل نغامر مرة ثالثة فنقول إن رواية ” أنا النقطة ” هي رواية مكانية / مدينية بامتياز ، احتفلت بالمكان الآسفي ،كَسِرٍ وجودي ونعمة إلهية ، وبوأته مكانته المستحقة ضمن باقي المكونات السردية وجعلت منه ” خزانا حقيقيا للأفكار والمشاعر والحدوس “(144) ، وما تعدد الأمكنة الأسفية إلا إشارة لتعدد المعاني والدلالات وعنوان ارتباط الروائية بالمكان وتفاصيله وذكرياته ، وهو تعدد يفتح آفاق التأويل وإغناء دلالات المتخيل . رواية ” أنا النقطة” رواية مكانية يتكامل فيها الخيال والذاكرة بالتاريخ والتراث لإبراز جماليات المكان الأسفي باعتباره رأسمال رمزي وحضاري تتوالد فيه الإشارات والمعاني ، والأمكنة المسرودة في الرواية كلها تحيل على الجمال في تعدد صوره ،وتتخذ بعدا فنيا من خلال سرد منافعه ومميزاته  كالخصب ( وادي الشعبة وعين لالة ميرة ) ، والإبداع والخلق ( تل الفخارين ) ، والعطاء والجود ( البحر) والتاريخ الجهادي ( قصر البحر) والولاية والقداسة ( خلوة الإمام الجزولي ، ضريح أبي محمد صالح) …لإغراء وإغواء المتلقي لاكتشاف أسرار المكان وشعريته ، وبالتالي فنحن أمام كتابة إبداعية واعية بماهية الجمال المكاني التي يتأسس عليها الحكي ، وهي كلها أمكنة توحي بالسكون والألفة والخير والعطاء ، وبقدر ما هي صفات تتميز بها المدينة فهي أيضا صفات يتميز بها الكاتب العرفاني الصائم عن رفث الكلام ولغو الحديث وصخب العالم ،إذ الأماكن تعبر عن أصحابها “(145) ، وهو ما يؤكد ويحقق  سيمياء الانتماء  ، لهذا فتصور د أسماء غريب للمكان هو تصور عرفاني واعي مبني على الجمال والسكينة والهدوء ينطلق من رؤية حضارية ،هذا المكان حضر بخلفية ومرجعية فنية وبلاغية إلى جانب مرجعيته الجمالية والوظيفية ، فكانت الأمكنة كأنها شتلات حضارية مستنبتة في جغرافية السرد قبل جغرافية المدينة ، قائمة في شموخ وصمت ، تحكي ما يفهم ولا يقال ، إلا همسا كاشفة عن شرط وجودي ، وانعكاس حضاري ، ودلالة رمزية عميقة عما تحمله المباني من معاني .

هوامش

1ـ معيار الاختيار في ذكر المعاهد والديار للوزير الأديب لسان الدين ابن الخطيب السلماني الغرناطي صفحة 160/161 تحقيق ودراسة د محمد كمال شبانة 

2 ـ مطبعة المعارف الجديدة الرباط 1997 وقد فازت الرواية سنة 1996 بجائزة اتحاد كتاب المغرب وترجمت سنة 2006 الى اللغة الفرنسية من طرف د سعيد لقبي

3 ـ طبعة أولى سنة 2013 باسفي

4ـ  طبعة أولى دار وليلي مراكش 2005

5 ـ  صادرة عن دار إفريقيا للشرق الدار البيضاء 2008

 6 ـ صادرة عن دار إفريقيا للشرق الدار البيضاء 2008

7ـ حائزة على جائزة البوكر العالمية للرواية العربية القائمة القصيرة سنة 2014 دار إفريقيا للشرق 2016

8ـ مطبعة طوب بريس الرباط 2011

9 ـ  المكتبة العربية للنشر والتوزيع القاهرة 2017

10ـ  الصادرة عن دار الفرات للثقافة والإعلام ودار سما  العراق 2021

11ـ أسماء غريب : أنا النقطة صفحة 20.

12ـ  د حميد لحميداني بنية النص السردي من منظور النقد الدلالي صفحة 65 المركز الثقافي العربي ط 1 بيروت 1991

13ـ جيرار جينيت وآخرين : الفضاء الروائي ترجمة عبد الرحيم حزل صفحة 137 أفريقيا الشرق 2002

14ـ  حسن بحراوي :بنية الشكل الروائي صفحة 33 المركز الثقافي العربي ط 2 بيروت 2009

15ـ عجوج فاطمة الزهراء : المكان ودلالته في الرواية المغاربية المعاصرة ، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في الأدب العربي جامعة جيلالي ليابس سيدي بلعباس الجمهورية الجزائرية 2017/2018

16ـ  غالب هلسا مقدمة كتاب جمالية المكان لغاستون باشلار صفحة 6 المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع بيروت 1984 طبعة 2

17ـ حسن نجمي شعرية الفضاء صفحة 7 المركز الثقافي العربي بيروت 2000 ط 1

18 ـ عبد الله توام : دلالات الفضاء الروائي في ظل معالم السيميائية ، صفحة 19 أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه كلية الآداب والفنون جامعة احمد بن بلة وهران

19 ـ د حميد لحميداني بنية النص السردي من منظور النقد الدلالي صفحة 70

20ـ  مهدي عبيدي جمالية المكان في ثلاثية حنا مينا صفحة 64

21ـ  أنا النقطة ص 64

22ـ د شكري عزيز الماضي : أنماط الرواية الجديدة  سلسلة عالم المعرفة عدد 355 شتنبر 2008 الكويت

23ـ د حميد لحميداني بنية النص السردي صفحة 67

24ـ غاستون باشلار : جماليات المكان ترجمة غالب هلسا

25ـ  حسن بحراوي : بنية الشكل الروائي ص 29

26ـ  أنا النقطة صفحة 40

27 ـ  حسن نجمي : شعرية الفضاء المتخيل والهوية في الرواية العربية صفحة 11

28ـ   حسن نجمي شعرية الفضاء المتخيل صفحة 8

29ـ نفسه صفحة 8

30ـ  نفسه صفحة 18

31ـ  يوري لوتمان: مشكلة المكان الفني ترجمة سيزا قاسم ضمن جماليات المكان صفحة 69 منشورات عيون المقالات الدار البيضاء 1988 ط2

32ـ  بول ريكور الزمان والسرد : الحبكة والسرد التاريخي صفحة 23 ج 1 دار الكتاب الجديد المتحدة بيروت 2006

33ـ  غالب هلسا تقديم كتاب جماليات المكان لغاستون باشلار صفحة 10

34ـ   حسن بحراوي بنية الشكل الروائي صفحة 36

35ـ  إتيان غلسون مقدمة كتاب جماليات المكان لغاستون باشلار صفحة 29 

36ـ جماليات المكان سيزا قاسم وآخرون صفحة 22 عيون المقالات الدار البيضاء 1988

37ـ صلاح صالح : قضايا المكان الروائي في الأدب المعاصر صفحة 17/18 القاهرة 1997

38ـ  استعادة المكان : دراسة في آليات التأويل والسرد صفحة 27

39ـ أدونيس الصوفية والسوريالية صفحة 144 دار الساقي

40 ـ  أ كريمة حميطوش : تلقي الخطاب الصوفي قراءة في شرح النابلسي لقصيدة ابن الفارض ” أريج النسيم” مجلة الخطاب عدد 7 صفحة 57 بتاريخ يونيو 2010 الجزائر 

41ـ  أنا النقطة صفحة 6

42ـ  أنا النقطة صفحة 23

43ـ مهدي عبيدي : جماليات المكان مرجع سابق صفحة 64

44ـ 73ـ  عبد الرزاق دحمان : الرؤية التاريخية في الرواية الجزائرية المعاصرة صفحة 29

أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه جامعة لخضر باتنة الجزائر

45ـ  غاستون باشلار : جماليات المكان مرجع سابق صفحة 56/57

46ـ  غاستون باشلار مرجع سابق صفحة 132

47ـ أنا النقطة صفحة 23

48ـ  أنا النقطة صفحة 24

49ـ  أنا النقطة صفحة 23

50ـ غالب هلسا تقديم كتاب جماليات المكان مرجع سابق صفحة 31

51ـ  سورة المائدة آية رقم 31

52ـ أنا النقطة صفحة 23

53ـ أنا النقطة صفحة 27

54ـ  محمد مصطفى علي حسانين : استعادة المكان : دراسة في آليات السرد والتأويل صفحة 4

55ـ أنا النقطة صفحة23

56ـ  أنا النقطة صفحة 24

57ـ أنا النقطة صفحة 27

58ـ  أنا النقطة صفحة 35

59ـ أنا النقطة صفحة 43

60ـ  أنا النقطة صفحة 44/45

61ـ  الفتوحات المكية ج 3 صفحة 227

62ـ  منطق الطير صفحة 193/194 دراسة وترجمة د بديع محمد جمعة دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع بيروت 2002

63ـ  غاستون باشلار  جماليات المكان صفحة 134

64ـ أنا النقطة صفحة 50

65ـ  نفسه صفحة 50

66ـ  جماليات المكان مرجع سابق صفحة 226

67ـ  محمد عزيز نظمي سالم : علم الجمال الاجتماعي صفحة 90 نقلا عن مهدي عبيدي مرجع سابق صفحة 30

68ـ سورة الرحمان آية 14

69ـ  أنا النقطة صفحة15/ 16

70ـ مولاي الطاهر الإدريسي الحسني من مواليد مدينة آسفي سنة 1942 له ديوان ” روح وريحان ” و ” التيه وما يواتيه ” و” رجال ونساء تأبى حاضرة المحيط نسيانهم ”

71ـ  أنا النقطة صفحة 17

72ـ  حسن نجمي شعرية الفضاء صفحة 33

73ـ  عبد الرزاق دحمان : الرؤية التاريخية في الرواية الجزائرية المعاصرة صفحة 15

74ـ  يوري لوتمان : مشكلة المكان الفني مرجع سابق صفحة 63

75ـ  انظر د حميد لحميداني بنية النص السردي صفحة 54

76ـ  يوري لوتمان مشكلة المكان الفني مرجع سابق صفحة 70

77ـ أنا النقطة صفحة 38 

78ـ  حسن نجمي بنية الشكل الروائي صفحة 33

 79ـ  أنا النقطة صفحة 15

80ـ  نفسه صفحة 18

81ـ  شاكر النابلسي : جماليات المكان في الرواية العربية صفحة 15 المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت 1994 ط 1

82ـ د شكري عزيز الماضي مرجع سابق صفحة 14

83ـ أنا النقطة ص 15

84ـ  سيزا قاسم : بناء الرواية صفحة 104

85ـ  حسن نجمي شعرية الفضاء صفحة 32

86ـ علم الجمال : د سائد سلوم صفحة 141 الجامعة الافتراضية السورية 2020

87ـ  د شكري عزيز الماضي مرجع سابق صفحة 103

88ـ الفتوحات المكية ج 1 صفحة 31

89ـ  أنا النقطة صفحة 32

90ـ   الفتوحات المكية ج 1 صفحة 28

91ـ علم الجمال مرجع سابق صفحة 153

92ـ  أنا النقطة صفحة 14

93ـ  يمنى العيد الرواية العربية : المتخيل وبنيته الفنية صفحة 270دار الفارابي بيروت 2011 ط 1

94ـ  أنا النقطة صفحة 15

95ـ  أنا النقطة صفحة 21

96ـ  أنا النقطة صفحة 20

97ـ  حسن نجمي شعرية الفضاء صفحة 15

98ـ  سيزا قاسم بناء الرواية صفحة 118

99ـ  عبد الرزاق بن دحمان:  الرؤية التاريخية في الرواية الجزائرية المعاصرة صفحة 16

100ـ  نضال الشمالي الرواية والتاريخ صفحة 138

101ـ   فلسفة بول ريكور ترجمة سعيد الغانمي صفحة 105 المركز الثقافي العربي البيضاء 1999

102ـ  سيزا قاسم مرجع سابق صفحة 107

103ـ   انظر كتابنا د أسماء غريب من آسفي : أديبة وناقدة وعارفة بالله ، آسفي 2020

104ـ الفتوحات المكية ج 2 صفحة 55

105ـ  أنا النقطة صفحة  20

106ـ  استعادة المكان صفحة 21

107ـ  نفسه صفحة 21

108ـ  حسن نجمي شعرية الفضاء صفحة 111

109ـ  أنا النقطة ص 64

110ـ   د حميد لحميداني بنية النص الشعري صفحة 71

111ـ نفسه صفحة 70

112ـ  حسن بحراوي بنية الشكل الروائي صفحة 79 

113ـ  أنا النقطة صفحة 62

114ـ  الرؤية التاريخية للرواية الجزائرية صفحة 64

115ـ  علم الجمال مرجع سابق صفحة 152

116ـ  استعادة المكان صفحة 112/113

117ـ أنا النقطة صفحة 25

118ـ  نفسه صفحة 61

119ـ نفسه صفحة 62/63

120ـ  نفسه صفحة 39

121ـ  نفسه صفحة 40

122ـ  حسن نجمي شعرية الفضاء صفحة 33

123ـ  أنا النقطة صفحة 52

124ـ ذخائر الأعلاق شرح ترجمان الأشواق صفحة 15 منشورات محمد علي بيضون/ بيروت

125ـ سيزا قاسم : بناء الرواية صفحة 40

126ـ ذخائر الأعلاق صفحة 35

127ـ  يمنى العيد : الرواية العربية : المتخيل وبنيته الفنية صفحة 11

128ـ   نفسه

129ـ  أنا النقطة 52/53

130ـ  استعادة المكان صفحة 84

131ـ  الفتوحات المكية صفحة 73

132ـ  حول مفهوم التقاطب راجع حسن بحراوي : بنية الشكل الروائي صفحة 39/42

133ـ حسن نجمي شعرية الفضاء صفحة 132

 134ـ  أنا النقطة 25

135ـ  أنا النقطة صفحة 21

136ـ  حسن نجمي شعرية الفضاء صفحة 32

137ـ  مهدي عبيدي مصدر سابق صفحة 139 وانظر مقالنا : إطلالة على وادي الشعبة جريدة لواء آسفي عدد 16 بتاريخ ابريل 2012 صفحة 6

138ـ  أنا النقطة 38

139ـ  نفسه صفحة 39

140ـ  نفسه صفحة 39/40

141ـ  أدونيس الصوفية والسوريالية صفحة 142/ 143  دار الساقي

142ـ أنا النقطة صفحة 17

143ـ  نفسه صفحة 67

144ـ  حسن بحراوي بنية الشكل الروائي صفحة 31

145ـ  سيزا قاسم بناء الرواية صفحة 122

تحميل مواضيع أخرى ذات صلة
تحميل المزيد في ثقافة وفن
التعليقات مغلقة.

شاهد أيضاً

بعد تدوينات استنكارية لرئيس مصلحة الولادة.. هل تفتح وزارة الصحة تحقيقا في مستشفى محمد الخامس بآسفي

أسفي اليوم : عبد الرحيم اكريطي تدوينة ثانية لها اكثر من مغزى تلك التي خرج بها على صفحته ال…