بمناسبة المائوية الاولى لتصنيف قصر البحر بأسفي تراثا وطنيا : قراءة في إشكالية التأسيس

1,566
المصطفى العياطي   طالب باحث في سلك الدكتوراه كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمراكش

قصر البحر بأسفي:            

من الوكالة التجارية الى التكنة العسكرية

 (قراءة في اشكالية التأسيس)

مقدمة:

       تعتبر القصور والقلاع والقصبات والحصون من ذخائر التراث المعماري الذي تزخر به المملكة المغربية، في مقارنتها مع باقي بلدان الشمال الافريقي، مما يرمز الى عظمة الدول والاسر التي تعاقبت على حكم هذا البلد عبر التاريخ، حيث استخدمت هذه المنشآت في تكريس سلطة الدول وضبط الدينامية الاجتماعية لمختلف المجموعات البشرية في المجال، سواء بالمدن والسواحل او بالممرات الجبلية والصحاري. وتضاف الى هذه الذخائر قصبات القياد والاعيان التي ماتزال بدورها بمثابة وثائق تشهد على تاريخ المناطق الموجودة بها. ويعتبر قصر البحر (Château de mer)، واحدة من هذه المنشآت التي تؤثث المشهد المعماري الاثري بمدينة آسفي والتي تناولتها   بالوصف العديد من   كتب الرحلات الأجنبية، كوثيقة مادية تحيل المشاهد فورا على المشترك الإنساني المغربي-البرتغالي.

نتساءل عن تاريخ بناء هذه المنشأة وعن سياقه التاريخي بمدينة آسفي؟ وعن المراحل التي قطعتها من حيث الانشاء؟ وعن الوظائف والادوار التي أنيطت بها خلال النصف الأول من القرن السادس عشر؟

1-آسفي من الولاء الى الاحتلال.

عاش المغرب ما بين 1465م (تاريخ انهيار الحكم المريني) و1554 م (تاريخ انهيار الدولة الوطاسية وظهور الاشراف السعديين) حالة من التضعضع جعلت الدولتين الابيريتين تركزان نظرتهما الامبريالية على المغرب، فأقدمتا على احتلال عدد من الثغور البحرية المغربية ومن ضمنها ثغر اسفي.  وإذا كانت الفترة الفاصلة بين 1415 م و1472م قد خضعت خلالها مدن مملكة فاس  كسبته وطنجة واصيلا والعرائش والقصر الكبير وترغة  للبرتغاليين باستخدام القوة العسكرية، فان مدينة آسفي التي كانت الى غاية 1460م تابعة اسميا  لمملكة مراكش، كانت تربطها علاقات تجارية مع الأوروبيين وبالأخص اسبانيا والبرتغال، كدولتين قويتين متنافستين حول ما تختزنه المدينة واقليمها من ثروات ، ولربما كانت هذه العلاقة التجارية قائمة منذ 1458 م ، حيث “حاول الأمير هنري الملاح ربط علاقات تجارية مع المدن المغربية الموجودة جنوب رأس كونتي ومع آسفي خصوصا” مما أتاح لهما كنتيجة  للاحتكاك التجاري  بالمدينة فرصة الاطلاع على  أوضاعها الداخلية ،التي كانت  حينئذ مضطربة ومفككة نتيجة الصراع على الحكم  وكثرة الدسائس والتنافر بين الاعيان المحليين ، وكذا بسبب  عدم تبعية المدينة  كليا لإدارة  مراكش أيضا..

ابتداء من سنة 1460م الى غاية 1488م حكم مدينة آسفي أحد الاعيان من أسرة آل فرحون القوية، وهو احمد بن فرحون الذي ما أن شعر بالدسائس تحاك ضده من طرف عدد من الفرقاء المحليين حتى قام ” ببعث احد اقربائه الى البرتغال، ويتعلق الامر بيحيى الزيات الذي كلفه بإعلان الولاء للتاج البرتغالي، ملتمسا الحصول على مساعدة من الملك خوان الثاني مقابل ذلك الولاء”  . وهي الزيارة التي اعقبها ابرام اتفاقية بين الملك البرتغالي ومسؤولي مدينة آسفي.

استمرت اسفي تحت الولاء البرتغالي في أجواء مشوبة بالحذر الى غاية تنصيب إيمانويل ملكا على البرتغال، والذي بدوره جدد تلك الاتفاقية على التوالي سنتي و1496م  و1500م. الا ان المناكفات السياسية داخل المدينة استمرت بين مناصري البرتغال بزعامة عبد الرحمان بن فرحون ابن اخ احمد بن فرحون وبين القائد احمد بن يحيى الزيات الذي كان يناصر الوجود الاسباني. استطاع عبد الرحمان ان يصل الى منصب حاكم اسفي خلفا لعمه احمد بدعم من البرتغاليين، واستمر في مركز القيادة الى أن لقي حتفه بذريعة قضية متعلقة بالشرف سنة 1506م، وهي السنة التي بزغ خلالها نجم شخصيتين جديدتين على الساحة الاسفية ويتعلق الامر بعلي بن واشمان ويحيى أو تعفوفت اللذان ما فتئا يقدمان نفسيهما كبديل لعبد الرحمان ، وكلاهما أعلنا  فيما بعد عن ولائهما للبرتغال.  سيتكرس الصراع على الزعامة بالحاضرة بين الرجلين الى ان آل حكم المدينة الى يحيى اوتعفوففت الذي كان يطمح –منذ زمن بعيد -الى منصب قائد اسفي، وذلك ما تحقق له بدعم واغراء من البرتغاليين الذين قاموا بتقديم بعض الهدايا له لمساعدتهم على دخول المدينة دون صعوبات ولا نفقات كبيرة، وطلبوا منه أن يسمح لهم ببناء حصن على شاطئ البحر يحفظون فيه بضائعهم في أمان، بعد أن تعرضوا للنهب بعد موت حاكم المدينة عبد الرحمان، فسمح لهم اوتعفوفت بذلك مقابل أداء الاتاوات المفروضة عليهم.

في غفلة من ساكنة المدينة ومسؤوليها، بدأ البرتغاليون ينقلون الأسلحة خلسة الى هذا الحصن داخل براميل الزيت وضمن البضائع ، إلى ان توفرت لهم الذخيرة الكافية للهجوم والدفاع، فاستغلوا بعض الظروف لإحداث اضطراب من اجل الانقضاض على المدينة، حين قام غلام أحد التجار البرتغاليين بطعن جزار مسلم، فثارت العامة على البرتغاليين وتوجهت نحو الحصن لنهبه فبدأ البرتغاليون يطلقون الاعيرة النارية وقتلوا أكثر من 100 مسلم. ورغم ذلك حاصر المسلمون الحصن البرتغالي عدة أيام، الى ان ظهر اسطول برتغالي مجهز بأنواع من الأسلحة الخفيفة والثقيلة وخمسة آلاف من الجنود  ومائة فارس بتاريخ 24 ديسمبر 1507م. ووصلت سفن أخرى في اول يناير من سنة1508 م فارهب هذا الاسطول عامة الناس وتركوا المدينة ملتجئين الى جبال بني ماجر ولم يبق الا أو تعفوفت واسرته الذين وافقوا على ببناء الحصن، فدخل البرتغاليون المدينة وسيطرو عليها وتم تعيين أوتعفوفت حاكما على بواديها لجمع الضرائب وارسالها الى ملك البرتغال.

هكذا نستنج بان نكبة مدينة اسفي المتمثلة في خضوعها للاحتلال الأجنبي كانت داخلية بالأساس، عكس مدن الشمال التي خضعت باستخدام القوة العسكرية. لقد تحولت مدينة اسفي خلال الفترة المذكورة الي حلبة للنزاعات والفتن بين عناصر نخبتها مما أدى الى سقوطها في براثن الأجانب بكل سهولة، حيث فرضت عليها شبه حماية برتغالية. وقد استعان البرتغاليون في بسط سيطرتهم على اسفي بمنعدمي الضمير من الساكنة المحلية، وكذا بالعنصر العبري في شخص الربي ابراهام بن زميرو، فسار منطق الاحداث اذن في اتجاه خضوع المدينة للاحتلال البرتغالي رسميا سنة 1508م.

2-قصر البحر: من الوكالة التجارية الى القلعة العسكرية.

أ-مرحلة ما بين 1491م و1508م:

تعود فكرة انجاز منشأة تجارية  على الطرف الشمالي من جرف “أموني” ، الى تاريخ عرض احمد بن فرحون ولاء مدينة اسفي للتاج البرتغالي سنة 1488م ، على عهد الملك خوان الثاني، حين  وافق هذا الأخير على العرض وكانت من ضمن شروطه   على ذلك القبول ” …لزوم تشييد وكالة تجارية لصالح التجار البرتغاليين…” وقد تم فعلا بناء هذه الوكالة سنة 1491م  ” في عهد حاكم آسفي احمد بن علي بن فرحون “والتي عهد بتدبيرها الى أحد الفرسان ببلاط الملك المدعو فيرنانديز دو ألمادا (Fernandes de Almeda) ،  ولأن  البرتغاليين –منذ البداية -لم تكن نيتهم  الحلول بآسفي لأجل الاحتلال الجغرافي للمدينة ونواحيها فحسب، وانما كانوا يرمون الى نشر المسيحية وفرضها على ساكنة اسفي  ، فقد انشؤوا الى جانب الوكالة المذكورة  كنيسة مؤقتة ، تولى الاشراف عليها أحد الرهبان يدعى دييغو (Diego).

لم تكن تلك البناية  في البداية سوى دارا بناها احمد بن فرحون لصالح التجارة البرتغالية بالمدينة كي يستخدم فضائها لا جراءات التعشير وكمستودع لتخزين للبضائع.  وهي الدار التي يستفاد من بعض الوثائق والنصوص أن البرثغاليين قاموا باقتنائها  ،  واستعمالها  ” قبل ان يبنوا محلا اخر بما يمكن تسميته بيتا للمضاربات التجارية او تعشير البضائع Factorerie”. وهي الدار التي  ما فتى البرتغاليون  يستغلون فرص  الصراع بين الفرقاء المحليين، كي يدعمونها ويزيدون في تحصينها تارة بالأبواب وتارة بالأبراج ، وخصوصا خلال الفترة مابيم1498م و1507م.

ارتبطت بهذه الدار عدة احداث ووقائع تلمح الى كونها  شكلت ملاذ آمنا للمخالفين والثائرين  ، حيث لجأ اليها عبدالرحمان ابن اخ احمد بن فرحون فارا من “أنصار اسبانيا الذين كانوا عازمين على الانتقام منه” ، كونه جاهر  امام الملأ بمناصرته للبرتغال. و حينما ال حكم المدينة الى اوتعفوفت  ،ستكون نفس الدار موضوع  طلب  برتغالي وجه ليحيى اوتعفوفت كي يسمح للبرتغاليين ببناء حصن على شاطئ البحر لحفظ بضائعهم بعد ان تعرضت للنهب والاتلاف من طرف السكان، عقب اغتيال عبد الرحمان بن فرحون -نفسه -بالمسجد الكبير.

ستكون هي نفس الدار التي أعرب احمد بن يحيى الزيات سنة 1502م -في سياق تسابقه على منصب القيادة  مع يحيى اوتعفوفت – عن استبدالها بأخرى يشيدها على الأملاك التابعة للوكالة   بداخل المدينة ، في حالة تسميته قائدا على آسفي بدلا من غريمه.  في أوجه النزاع والضغينة بين عبد الرحمان بن فرحون و يحيى الزيات، طلب ممثلو الملك البرتغالي ايمانويل من ساكنة مدينة آسفي الموافقة على فتح باب في الجدار المواجه للبحر من تلك الدار، تارة  بذريعة أن   القائد البرتغالي (الوكيل) ومساعديه يمكنهم في حالة الخطر أن يلوذوا الى الاشرعة على البحر، وتارة  بذريعة انجاد الزيات ضد هجوم ما يمكن ان يقع من لدن اعدائه” . علما ان هذا الذرائع كلها صيغت في سياق مخطط برتغالي سري، كان يرمي الى استبدال عبد الرحمان بالزيات.

في اوج الصراع وانعدام الثقة –مرة ثانية -بين علي بن واشمان ويحيى او تعفوفت ، تحققت لجاك دو ازامبوجا (Jaque de Azambouja)  عدة مكاسب ومن جملتها أنه  “حصل لفائدة مواطنيه على دار بجانب البحر، وعلى برج او برجين من اقوى الأبراج بالمدينة لضمان امنهم، مما كان يعتبر ذا أهمية بالأساس في حالة اندلاع الاضطرابات”، وهنا ظهرت أولى الملامح ذات الصبغة العسكرية لهذه المنشأة.

بمناسبة الوجود العسكري البرتغالي المكثف و المفاجئ في مياه اسفي ، رفض اوتعففت في البداية ” أن يسلم لأزامبوجا الدار المحصنة المنفتحة على الشاطئ بذريعة أن هذا الاجراء يعتبر مضرا  “. ونتصور الى هذا التاريخ أن تلك الدار أصبحت بعد الإضافات الأخيرة، مزودة بأبواب وظيفية وابراج محصنة، ولم ينقصها الا القليل لتصبح “حصنا حقيقييا” حسب تعبير بيدرو دياش(Pedro Dias).

نجح البرتغاليون من قبل في جعل هذه البناية خارجة عن سلطة آل فرحون  وكذا عن سلطة القائد يحيى اوتعفوفت  لاحقا بعد الهدايا  التي  أغذقوا بها على  هذا الأخير،   والاستقبال الكبير الذي خصصه له  بالبرتغال  من طرف الملك . سمح اذن اوتعفوفت -كما أشرنا الى ذلك أعلاه-للبرتغاليين باستعمال الدار مقابل أداء بعض الاتاوات المفروضة عليهم.  استغل البرتغاليون غفلة سكان المدينة وكذا حالة الصراع الحاد بين الزعماء المتنافسين، فبدأوا ينقلون الأسلحة خلسة الى هذا الحصن الذي نفترض انه غير مكتمل البناء، والذي انطلاقا منه انقض البرتغاليون سنة 1507 م على اسفي مستعملين الاعيرة النارية، مستغلين حادثة قتل أحد الجزارين المسلمين على يد مساعد أحد التجار البرتغاليين. لكن تعزيز البرتغاليين لقدراتهم بمزيد من الأسلحة الخفيفة والثقيلة و الجنود في 24 ديسمبر 1507م وفي الأول من يناير1508م، عجل بسقوط المدينة والسيطرة عليها، أما أوتعفوفت فقد عينه الملك البرتغالي ايمانويل الأول حاكما على بواديها لجمع الضرائب وارسالها الى ملك البرتغال،  سيهبه مدينة سرنو القريبة من آسفي  كمكافئة على هذه المهمة  ، حيث اقطعها وايراداتها  له ولورثته من بعده ، وكان ذلك   بموجب رسالة مؤرخة في 25 غشت1514م .

منذ ذلك الحين أنطبعت تلك الدار في وعي ساكنة آسفي ووجدانهم بكونها وكرا للدسائس ومنطلقا للاعتداءات البرتغالية على اسفي، وكانوا كلما ثارت ثائرتهم يتوجهون نحوها بهدف نهبها أومحاصرتها وطرد من فيها.

ب-مرحلة ما بين 1508 و1516م:

بعد إحالة العجوز ازامبوجا على التقاعد من منصب قبطانية اسفي التي قضى بها ثلاث سنوات(1507-1509)، تم تنصيب مكانه المسمى نونو فيرنانديس دي اتايد(Nono Fernandes De Ataide)  سنة 1510 م – وهو أشهر القباطة البرتغاليين ، عرف الاحتلال البرتغالي  في المغرب  في عهده  ازهى الفترات .  وما أن حل هذا الأخير بآسفي وجد نفسه امام عدد كبير من الانشغالات ومن ضمنها إعادة تنظيم الإدارة المحلية بالمدينة وإعادة تمتينها وتحصينها أمام الهجومات التي يمكن ان يقوم بها الأعداء المفترضون.  لذلك اعطى نونو فيرنانديس الأولوية لبناء أسوار منيعة ومتميزة “رغبة منه في جعل رعاياه في مأمن من أي هجمة طارئة، بحيث أصدر أوامره بأن تكون الاسوار الجديدة صروحا متينة وثابتة عبر الزمن” . ومن جملة المشاريع التي نفذها الى جانب تشييد الاسوار بالحجارة الرملية المشدودة بالجير،” أمر نينو فرنانديس  دو اتايد(Fernandes De Ataide Nono) سنة 1515م المهندس بير كومير(Pierre Komer) ببناء برج الجمرك بالقصبة العالية ، وكان حسب ما يبدو بمثابة آخر قطعة تنتظر الإنجاز”، مما يدل على ان هذه القصبة   قد أدرجت ضمن اهتمام البرتغاليين  كذلك ،نظرا لموقعها المهيمن على ظهير المدينة ، ونظرا لكونها توجد في مقدمة المنشآت المهددة  من ناحية الشرق  بهجومات رجال القبائل الثائرين الرافضين للوجود البرتغالي .

اما المنشأة البحرية موضوع مداخلتنا فقد استمرت تقوم بالأدوار المنوطة بها كدار للتعشير وكملاذ للهاربين المستأمنين ومقر للاستخبار.  ولذا فإننا نرجح انها بقيت على حالها دون اجراء أي تعديلات، وكانت –حينئد -مكونة من الفيتورا ومن مخازن التوريد والتصدير وبجانبها البرجان اللذان تم تشييدهما في عهد ازامبوزجا .

ج-مرحلة مابين1516و1524م:

لم يعد البرتغاليون خلال هذه الفترة يهتمون بترميم المباني القديمة، مكتفين بتدعيمها وترقيعها واحاطتها بأبراج تنتمي الى العصور الماضية، بل انصرفت انظارهم الى ضرورة تشييد بناءات تستجيب لمتطلبات المرحلة لان البنية المعمارية الموجودة آنذاك لا ترتقي لان تكون منظومة دفاعية، مطابقة للحاجيات التي باتت تفرضها بعض الاختراعات، مثل المدفع الذي” ألزم البنائين العسكريين بأن يسندوه بكثل اقوى بكثير، وأكثر مكانة ومقاومة”. لقد استدعى البرتغاليون لأجل ذلك أمهر البنائين البرتغاليين الذي اشتهروا في بلادهم بالبناء على المنوال المنويلي الضخم الذي يعتمد على الحجر الرملي المنجور. ويعتبر “قصر البحر”

انطلقت اشغال بناء “قصر البحر” في عهد القبطان البرتغالي ماسكاريناس (Mascarenhas) (1516-1522) وامتدت هذه الاشغال حتى عهد الحاكم البرتغالي ساكوطو (Sacoto) (1522-1525)، حيث استغرق البناء به مدة لا تقل عن ثمانية أعوام. قد يتساءل المرء عن سبب تباطء وتيرة الاشغال في بناء هذا الحصن، وللإجابة عن هذا التساؤل هناك  فرضيات كثيرة ،نذكر منها ما أورده الباحث أبو القاسم الشبري  من أن ” التدرج في التدخل البرتغالي كان محكوما بظروف تحكيم كنيسة روما، في الفصل بين تقسيم المناطق المحتلة والمزمع احتلالها بالمغرب وافريقيا بين القوتين المتصارعتين على شواطئنا وهما مملكة البرتغال ومملكة قشتالة” .بينما  يرجع الباحث كريدية إبراهيم تثاقل الاشغال في بناء الحصن المذكور  الى أسباب  اخرى، كضعف عدد البنائين البرتغاليين  وكذا انشغال الحامية البرتغالية  بالبناء في اكثر من ورشة على مستوى المدينة بكاملها، “ومن ذلك بناء الاسوار والكنيسة والديوانة بالإضافة الى حصن “قصر البحر”.كما يمكن ان تكون حالة الاضطرابات الناجمة عن غارات القبائل وكذا الاضطرابات  التي تلت تدخل الوطاسيين في المنطقة وتلك التي أعقبت مقتل القبطان اتايد- وبالتزامن مع المجاعة- قد كلفت  الاحتلال مبالغ مالية  إضافية جعلت اشغال البناء تتوقف من حين لآخر.

لقد تم اختيار موضع بناء القصر على القسم الشمالي من جرف “أموني” المطل على المريسة القديمة بالفضاء الذي احتضن في البداية بناء دار التعشير الأولى وملحقاتها، مما يدعو الى التساؤل عن مصير تلك البنايات : هل تم الاحتفاظ بها عن طريق ادماجها  ضمن تصميم  القصر الجديد ؟  أم انها تم التخلص منها لأسباب تقنية وتوسعية  ؟.وهو نفس التساؤل الذي طرحه جوزيف كولفن بقوله: “سيظل من المستحيل تكوين فكرة عن وضعية المساكن القديمة للوكالة التجارية أو عن إقامات القبطانات البرتغاليين، إذ أننا لانعرف اليوم شيئا عن ذلك”. غير أن الباحث كريدية إبراهيم ، يرجح ان تكون منشأة “قصر الجديد” (Casteillo Novo) التي وسعت مساحة 3900متر مربع ، قد ” ابتلعت معها ارض الدار والوكالة التجارية القديمةFeitora  وزادت عليها.”. بل أنه يرجح أن تكون الغرف الخمس المطلة على فناء هذه المنشأة العسكرية من الناحية الغربية والشمالية والجنوبية “أنها كانت في الماضي جزء من الفيتوراFeitora” وأنها “تحولت في عهد الاحتلال البرتغالي لإقامة جند الحامية ولخزن المؤن والسلع”. و لا نملك -من ناحيتنا – من الحجج ما يسعفنا في تأكيد هذه الافتراضات، فلربما التأكد من صحتها يبقى رهينا بما يستخلصه العمل الاركيولوجي من نتائج ،  ذلك ما خلص اليه  جوزيف كولفن -نفسه -بقوله :”…. يتعين علينا رفع الأنقاض للوصول الى الهدف المنشود.”

د-مرحلة مابين 1524 و1541م:

يرجح أن تكون وظيفة التعشير وخزن البضائع والاشراف على التوريد والتصدير وتهريب الأسلحة قد استمرت، كوظيفة اصيلة انيطت بشكل مبكر بهذه المنشأة، والتي استمرت تؤديها دون انقطاع طيلة المراحل الثلاث: الدار/الحصن/القصر الجديد، وذلك الى غاية جلاء البرتغاليين عن اسفي وازمور سنة 1541م.

منذ تاريخ استكمال بنائه سنة 1524م، أصبح “القصر الجديد” متعدد الوظائف والمهام كما تعددت مجالات تدخله أداريا وتجاريا واستخباراتيا، وعسكريا أيضا، كونه حسب بيدرو دياش(Pedro Dias)، أصبح يمثل نظاما دفاعيا أقرب الى القلاع المانويلية في المملكة البرتغالية نفسها”.

الوظيفة التجارية:

بحكم اطلالته المباشرة من الناحية الشمالية على فضاء مرسى اسفي، انيطت ب “القصر الجديد”، علاوة على مهمة التعشير والعمليات الجمركية، مراقبة الميناء والاشراف الدقيق على حركية الصادرات والواردات ومحتوياتها. كما ان “القصر الجديد” مكن البرتغاليين من التحكم في ألتجارة المحلية وفي اسواق المدينة، لعل أهمها آنذاك السوق الكبيرة الموجودة بالجوار.

الوظيفة الإدارية:

انيطت ب”القصر الجديد” دور مقر الإدارة البرتغالية المحلية لتدبير شؤون مدينة آسفي والمناطق المحيطة بها، خصوصا وأن قياد الحامية البرتغالية الذين تعاقبوا على حكم آسفي كانوا يقيمون بداخله و قد اتخذوا الطابق العلوي من البرج المستطيل مقرا لأعمالهم، وكانوا يتمتعون بصلاحيات واسعة على اعتبار انهم “يمثلون رأس السلطة الإدارية والعسكرية والقضائية” التي فوضها الملك البرتغالي لهم . ونظرا لأنه كان مستقر الحاكم البرتغالي “فقد كان المقر الرئيسي للاجتماعات والمفاوضات ومصدر كل التعليمات والاوامر العسكرية العليا والخطيرة”

الوظيفة الاستخباراتية:  

بحكم قربه من المدينة ولكونه على المستوى المعماري يمثل واسطة العقد ونقطة التقاء مسارات المماشي الموجودة في اعلى الاسوار المحيطة بالمدينة، المرتبطة بالأبراج وكذا بالقصبة العالية، فقد أصبحت ل “القصر الجديد ” وظيفة الاستخبار وجمع المعلومات وتتبع كل التفاصيل عن حركية مسلمي اسفي.

كما انيطت به مهمة الكشف الاستباقي عن تحرشات المتمردين بضواحي المدينة والقبائل ، عن طريق الاستعلام والتواصل   بالأبراج والقلاع البعيدة   التي اندثرت غالبيتها ولم يتبق منها-في وقتنا الحالي – سوى “برج الناضور” في شمال المدينة.

الوظيفة العسكرية:  

مكن “القصر الجديد” الذي تعكس هندسته بصمات المحيط الاطلسي ،  بما يتوفر عليه من أبواب  ونوافذ  منفتحة على البحر- فضلا عن توجيهه وواجهته المزودة بالمدافع – الجنود البرتغاليين من تتبع ومراقبة ومقاومة الاعتداءات التي يمكن ان تأتي من البحر” ، وكذا تلك التي يمكن ان يكون مصدرها  البر من  جنوب غرب المدينة . وبما أنه منشأة عسكرية منيعة مزودة بأبراج عالية واسوار مدعمة فقد أسعف المحتلين في اللجوء اليه والتحصن ضد الغارات القبلية. كذلك، ونظرا لكون هذه الحصن المكتمل أكثر مناعة بما تميز به من مقومات التحصن والتمترس ومجهزا بالأسلحة الخفيفة وعدد من المدافع فقد “كان بحصانته وقوته يعوض عن نقص عدد جند الحامية البرتغالية” بالمدينة.

استنتاج:

هكذا بدا لنا ان منشأة “قصر البحر” تختزل لوحدها جزء من تاريخ مدينة آسفي زمن الاحتلال البرتغالي وهي شاهدة على كل تفاصيل هذا الاحتلال من مبتدئه الى خبره.  تم تشيدها تدريجيا بموازاة حالة تقدم خطط العمل السياسي الذي كان يعتمد-بالأساس-على بث الضغائن وزرع عدم الثقة بين اعيان اسفي المتنافسين. ذلك انه كلما أسفرت اعمال الخداع والكيد عن نتائج ايجابية في اختراق جبهة الفرقاء السياسيين بالمدينة، كلما تقدمت اشغال البناء أو استأنفت اشغال الإضافة والتدعيم وفتح الأبواب -كما أسلفنا -الى ان سنحت الظروف ببناء بناية مكتملة وفق تصميم هندسي، وهي التي سميت ب “القصر الجديد” تمييزا لها عن القصبة العالية القديمة.  شكلت اذن هذه البناية التي شرع في تشييدها عمليا في ظروف من التربص بالمدينة وأهلها منذ سنة 1491، نقطة ارتكاز تمهيدي بهدف تثبيت البرتغاليين اقدامهم بالمدينة وظهيرها، كما لعبت في الأخير نقطة لجلائهم سنة (1541) ، حيث منها تم الهروب الكبير عبر البحر والجلاء النهائي عن اسفي، فكان بذلك آخر منشأة استودعوها الى الابد.

 

البيبليوغرافيا

1-  بوشرب، أحمد، دكالة والاحتلال البرتغالي إلى سنة إخلاء آسفي وأزمور(قبل 28غشت1481-اكتوبر1541)، الطبعة الثانية، الدار البيضاء 2013.

2-جوزيف، كولفن ، اسفي في عهد الاحتلال البرتغالي 1488-1541، ترجمة علال ركوك-محمد الشيخ، مراجعة وتقديم : احمد بنجلون،  منشورات جمعية البحث والتوثيق والنشر ،الطيعة الاولى2007م.

3-  الشبري ، أبو القاسم، دكالة وايالته جهة دكالة عبدة: تاريخ وآثار. الطبعة الأولى، الجديدة 2012م.

4-كريم، عبد الكريم، المغرب في عهد الدولة السعدية. دراسة تحليلية لاهم التطورات السياسية ومختلف المظاهر الحضارية. منشورات المؤرخين المغاربة. مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء. الطبعة الثالثة 1427ه/2006.

5-كريدية، إبراهيم،

– قصر البحر. ضمن سلسلة: تعرف على مآثر مدينتك وجهتها العدد :1، طبعة يوليوز-غشت 2010. 

-محاولة في كشف بصمات المحيط الأطلسي في تاريخ وعمارة حاضرة آسفي، منشورات جمعية اسفي للبحث في التراث الديني والتاريخي والفني، الطبعة الثانية، اسفي 2013م.

7-مجهول برتغالي، وصف المغرب أيام مولاي احمد المنصور، نقله عن الفرنسية، محمد مزين وعبد الرحيم بنحادة، الطبعة الأولى، مراكش 1995م.

8 -الوزان، محمد بن الحسن الفاسي، وصف افريقيا، الجزء الأول. ترجمه عن الفرنسية: محمد حجي/محمد الأخضر.  دار الغرب الإسلامي الطبعة الثانية 1983

9-  Romeo Carabelli. L’héritage portugais au Maroc. Mutual Heritage – Citeres, 2012. ffhalshs-012578640-10 – David Lopes, Les Portugais au Maroc [article] Revue d’Histoire Moderne & Contemporaine  Année 1939  14-39  

تحميل مواضيع أخرى ذات صلة
تحميل المزيد في أبرز المواضيع
التعليقات مغلقة.

شاهد أيضاً

ربورتاج : التعاونية الحسنية لصناعة القرميد والخزف بأسفي