بقلم سعيد الجدياني | إعلامي مهتم بتراث أسفي
عرفت مدينة آسفي، عبر تاريخها الطويل، تكرارًا ملحوظًا للكوارث الطبيعية المرتبطة أساسًا بالسيول الناتجة عن التساقطات المطرية الغزيرة. وقد بلغت هذه الظاهرة ذروتها المأسوية خلال فاجعة سنة 2025، التي خلفت عشرات الضحايا وخسائر مادية جسيمة. يهدف هذا البحث إلى تتبع الجذور التاريخية لهذه الظاهرة، وتحليل تفاعل العوامل الطبيعية والبشرية في صناعة الكارثة، من خلال مقارنة الحوادث التاريخية المسجلة بما وقع في الزمن الراهن، اعتمادًا على مصادر تاريخية محلية ومعطيات ميدانية معاصرة.
مقدمة
تُعد الكوارث الطبيعية جزءًا من التاريخ البيئي للمدن، غير أن خطورتها لا تكمن فقط في عنف الظواهر الطبيعية، بل في كيفية تعامل الإنسان معها. وقد أظهرت فاجعة “الأحد الأسود” بآسفي (2025) هشاشة البنية الحضرية وضعف ثقافة التدبير الاستباقي للمخاطر، مما يستدعي مقاربة تاريخية لفهم ما جرى، ووضعه في سياق استمرارية زمنية.
الإطار الجغرافي والبيئي لمدينة آسفي
تقع مدينة آسفي على الساحل الأطلسي، عند مصب عدد من الأودية الموسمية، أبرزها واد الشعبة، إضافة إلى انحدار طبيعي للأحياء التاريخية نحو البحر. هذا الموقع الجغرافي، رغم أهميته الاقتصادية، جعل المدينة عرضة تاريخيًا للسيول، خاصة في ظل التساقطات المركزة زمنيا.
السيول في المصادر التاريخية المحلية
تشير المصادر التاريخية، ومن بينها ما أورده المؤرخ طاهر عزيز، إلى أن آسفي عرفت سيولًا مدمرة منذ القرن السابع عشر، من أبرزها:
سيل سنة 1677
دخل سيل عظيم إلى المدينة، هدم بسببه جزء من سور آسفي من جهة البحر، وتهدمت ديار وحوانيت، مما يدل على قوة الجريان وتأثيره المباشر على النسيج العمراني.
سيل سنة 1700
في ليلة 4 ربيع الأول (نونبر 1700)، نزل سيل جارف عقب أمطار غزيرة، أسفر عن وفاة أكثر من عشرين شخصًا، وقد أشرف القائد عبد الرحمن بن ناصر على دفن الضحايا، في دلالة على حجم الفاجعة.
سيول سنتي 1790
عرفت المدينة خلال شهري نونبر من سنة 1790 سيولًا متكررة (13 و23 نونبر)، أدت إلى هدم الحوانيت والديار والسوريات البحرية، وضياع الأموال والبهائم.
سيل سنة 1826
سُجل دخول سيل عظيم بعد صلاة الظهر، أعقبته ليلة عاصفة رعدية، ملأت مياهها المسجد الأعظم، وانهدمت حوانيت وديار، وتوفي عدد من السكان.
سيل سنة 1901
في رمضان 1319هـ (دجنبر 1901)، تسببت أمطار غزيرة في غمر المسجد الأعظم، وانهيار محلات تجارية، وسقوط ضحايا بشرية وحيوانية.
سيول القرن العشرين (1920–1927)
عرفت آسفي بين سنتي 1920 و1927 عواصف وسيولًا قوية، وصلت مياهها إلى ارتفاع يفوق مترين ونصف وسط المدينة، ودخلت الزاوية الناصرية، وهُدمت عشرات الدور، مع تسجيل وفيات محدودة.
مقارنة تاريخية: سيول الأمس وفاجعة اليوم
رغم عنف السيول التاريخية، فإن عدد الضحايا المسجل في فاجعة 2025 يُعد الأعلى مقارنة بكمية التساقطات. فمدينة آسفي سجلت سنة 1996 تساقطات بلغت 70 ملم دون خسائر بشرية، بينما لم تتجاوز التساقطات سنة 2025 سقف 35 ملم، ومع ذلك كانت الحصيلة ثقيلة.
هذا التناقض يؤكد أن:
– العامل الطبيعي وحده غير كافٍ لتفسير الكارثة
– العامل البشري والتدبيري أصبح عنصرًا حاسمًا في تضخيم المخاطر
العوامل البشرية في صناعة الكارثة
من خلال المقارنة التاريخية، يمكن رصد تحولات خطيرة:
– انسداد المجاري الطبيعية للأودية
– غياب الصيانة الدورية لشبكات الصرف
في الماضي، ورغم ضعف الوسائل التقنية، كانت المدينة أقل كثافة عمرانية، وأكثر انسجامًا مع مجاري المياه الطبيعية.
فاجعة 2025: قطيعة مع منطق التاريخ
تشكل فاجعة 2025 لحظة قطيعة مع التاريخ، ليس من حيث الظاهرة الطبيعية، بل من حيث حجم الخسائر البشرية، مما يجعلها:
– كارثة مركبة (طبيعية + تدبيرية)
– نتيجة تراكمات طويلة من الإهمال
– دليلاً على غياب سياسة استباقية قائمة على معرفة تقلبات الجوية والارصاد الجوية
خاتمة
يخلص هذا البحث إلى أن مدينة آسفي لم تكن يومًا غريبة عن السيول، لكن الجديد في فاجعة 2025 هو تحول الخطر الطبيعي إلى مأساة إنسانية بسبب الاختلالات البنيوية. إن استحضار التاريخ المحلي ليس ترفًا معرفيًا، بل ضرورة أساسية لبناء سياسات حضرية تحترم المجال وتستبق المخاطر.
مراجع أولية
– طاهر عزيز، صفحات من تاريخ آسفي، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، عدد مزدوج 22–23.
– سجلات محلية ووثائق تاريخية متفرقة.
– معطيات الأرصاد الجوية الوطنية (2025).
