أسفي الغريقة .. يوم النكبة الذي دمر المدينة العتيقة بتاريخها وأهاليها …

164

ننشر هذه المادة الإعلامية بالتزامن مع صدورها في عدد الثلاثاء من جريدة الاتحاد الاشتراكي …وهي ورقة تفكيكية لما وقع بالتقريب والتفصيل والموقف مما يحدث في أسفي …سيكون لها ما يليها من قراءات هادئة في مسارات التنمية والفساد السياسي وتواطؤات النخب الإدارية التي تغتني وتأكل من ثروات المدينة وترحل ..تاركة البدو ممن اقتحموا العمل السياسي بعدما كانوا مجرد كراكيز وتافهين …هذا الكلام ..سيكون له ما بعده …

محمد دهنون |  عضو هيئة تحرير جريدة الاتحاد الاشتراكي 

ليست كل العواصف والزوابع الطبيعية تقتل أو تدمر ، قد تمر مرور الكرام ، وينتهي الأمر ..لكن في أسفي انطلق طوفان مائي في لحظة زمنية ضيقة وغير منتظرة ..تركت الجميع مشدوهين ووضحت بالملموس ارتباك مدبرين وسلطات لم تتغلب بعد ساعات من الكارثة على أعطاب ما نزل …هذه الورقة الإعلامية ..سبر وتأصيل ونبش في الماضي والحاضر والتاريخ ..المهنية تقتضي في مثل هذه الحالات الإنزياح للحياة والأصول التاريخية لأسفي المدينة العريقة  الذي يعتبرها البعض قرية على الأطلسي..الانتصار للمهمشين وضد الفاسدين ..

من زمن رديء تعيشه حاضرة المحيط ، لم  يتوقع أحد ما حصل في أسفي نهاية الأسبوع الماضي، ساعة من الأمطار والرعد والبرق كانت كافية لإيقاف الحياة والجولان على معظم شوارع وحواري المدينة.. ودخلت المدينة العتيقة لتتصدر نشرات الأخبار والمواقع كأكبر نقطة متضررة تركت خلفها الدمار ورائحة الموت وناس يقتعدون الإسفلت والعراء …ما الذي وقع بالضبط …؟..وكيف غرقت المدينة ..؟

السويعات الأخيرة من أحد كئيب كباقي الآحادات التي تمر على المدينة ، لاشيء جديد ،  تجار يعرضون سلعهم ..غير مبالين بصوت الرعد والبرق وسقوط نتف متفرقة من الثلج (التبروري) ،  المكان هادئ كما العادة ينتظر المتبضعين من الزوار الذين يبحثون عن قطعة خزف أو لباس ..وسط مدينة قديمة وعتيقة تبدو مهملة وساقطة من كل حسابات التنمية ..

فجأة ..جاء الطوفان المائي دون اكتراث أو تحذير ،ليغمر الجميع ويجرف كل ما وجد في طريقه ، بشر ، حجر ، شجر ، وسيارات ..الماء لا يميز فهو قادم من كل الاتجاهات .

في لحظة سريعة تحولت أسفي إلى جزر متفرقة ومقطوعة شمالها لا يصل لوسطها وجنوبها معزول ، باستثناء المدينة العتيقة التي غرقت بالكامل وباتت معزولة إلا من صور نداءات واستغاثة لشباب ونساء عالقين وسط الموج الهادر للمياه القادمة من وادي الشعبة .

استدعاء التاريخ..

كي يعرف المتتبع ، أسفي القديمة التي مرت عليها إيالات متعددة وسكنتها أجناس وأعراق يشق مدينتها العتيقة شارع قديم هو اليوم مستقر لغالبية التجار ، كل الحرف موجودة هناك ، من صياغة الحلي إلى الخزافة وتاعطارت  ،الملابس وكعك أسفي ..كل شيء موجود بين أسوار المدينة ..هذا الشارع هو في الأصل مجرى واد أو ممر مائي قديم ينتهي عند شاطئ لمريسة قرب قصر البحر البرتغالي ..عندما تتجمع مياه الأمطار على ضواحي المدينة في وسطها وشمالها وتتحول إلى سيول ..فاتجاهها الوحيد هو وادي الشعبة الذي يمر من باب الشعبة وكم غرقت المدينة في القرون الفائتة حسب وثائق وصور تاريخية . المشكل تنبه له المخطط الحضري قبل عقود وقام بتحويل مياه “الحملة” عبر تجويف وقناة مائية تمر على خاصرة المدينة وتحت سورها التاريخي ..ومن هناك إلى البحر ، وانتهى الأمر ………

لا ..لم ينته الأمر هذه المرة ، كانت النكبة حقيقية وكان الثمن المدفوع أرواحا لمغاربة وسكان بفعل سوء إدارة الموارد المحلية لمدينة تنتج الثروة ولا تستفيد منها .

نشرة الأرصاد الجوية التي أذيعت في الحادية عشرة صباحا من يوم الأحد 14 دجنبر لم تذكر شيئا عن أسفي ، وفي نشرة محينة نشرت بعد الفاجعة تم إدخال أسفي ..هذا التفصيل ..معناه ألا أحد كان يتوقع ما حصل حتى راصدو الأحوال الجوية ، ومع الاستهتار الذي يميز مدبري الشأن المحلي  فإن هذه النتائج الرهيبة والكارثية كانت متوقعة حسب دردشات متعددة مع فاعلين وساسة محليين يتابعون الوضع عن كثب .

بداية الطوفان..

التساقطات كانت عادية وأسفي عرفت أكثر منها سابقا ولم يحدث ما حدث في أحد 14 ديسمبر..أين المشكل ..؟؟..المياه بدأت في النزول من كل المرتفعات المحيطة بالمدينة ، ربوة دار السلطان وبيرو عراب التقت مياهها مع تل الخزف الفوقاني وأحياء أشبار وبياضة ، منتظرة السيول القادمة من طريق سيدي عبد الرحمن ، حيث يوجد السد المائي الذي كان يزود المدينة بالماء الشروب ووضع خارج الخدمة ، بعد تشغيل محطة تحلية المياه.

وطبعا حجم المياه القادمة من كل هذه الاتجاهات ، ما هو في الحقيقة إلا استعادة الماء لذاكرته القديمة والعودة إلى مجراه القديم ، لماذا سميت أسفي ، أسيف وأسفو ..ماذا تعني أسيف بالأمازيغية ..المدبر الحكومي والمحلي الذي لا يعرف تاريخ مدينة يقوم بإدارتها ..تكون الحصيلة قاتلة …وسيحتقره التاريخ هو الآخر ….

على طول مجرى وادي الشعبة ، نبتت مساكن ودور عشوائية ..وتحول الوادي إلى مزابل مشتتة يرمى فيها كل شيء ويسمح فيها بكل شيء تحت أنظار الجميع ،لا تنظيف ولا تنقية دورية على الأقل قبل موسم الأمطار. في القنطرة التي تربط حديقة جنان الفسيان القريبة المتواجدة على بضع أمتار من باب الشعبة المدخل الشمالي للمدينة …والتي هي في الحقيقة كانت منتزها ومنتجعا صيفيا لسلاطين مروا ..هذه الحديقة التاريخية تجلس فوق الوادي ، وبجانب القنطرة ..فاض الماء ولم يجد تصريفا للبحر الذي يفصله عنه مسافة قصيرة …هنا انقلب الأمر وعوض أن تشق السيول طريقها للأطلسي ، قررت اختراق المدينة من وسطها وصناعة الكارثة ..والكل شاهد كيف وقفت الأسوار التاريخية في مواجهة المياه الطوفانية وكيف صمد باب الشعبة ذو الخمسة قرون وما ينيف بدون خرسانة ولا إسمنت في وجه  الطوفان المائي الذي تجاوز الأربعة أمتار .

زد على ذلك ..اختناق المجاري والبالوعات وإغلاق الكثير منها ، خصوصا القنوات الكبرى التي تفرغ في البحر والتي حشرت بصخور وكتل اسمنتية  من بقايا شركة ترميم قصر البحر.. تحت متابعة سلبية وغير مفهومة لشركة تدبير الماء والكهرباء المنوط بها أمر التطهير والتفريغ و”حيادية” مجلس بلدي يحسب على موتى السياسة في زمن اللاسياسة واللاعقاب وعدم ربط المسؤولية بالمحاسبة .

رائحة الموت وقبور تحت الماء…

نعم ..ما تبع ذلك من مشاهد مروعة وصور مؤلمة لأهالي يبحثون عن أفراد أسرهم وعائلاتهم ، كان فوق التصور ، العتيقة غارقة حتى أذنيها ، ناسها محاصرون في الأبنية الآيلة للسقوط والتي يتجاوز أحدثها القرن من الزمن ، كل أجهزة السلطة واقفة مرتبكة لا تملك آليات تدخل سوى البسيطة منها كقارب وقاية مدنية أصبح كقشة تذروها المياه في نهر جارف من مياه لم يعد أحد يعرف مصدرها ولا من أين هي قادمة …فقط ما أصبح ثابتا وحقيقيا هو أن أسفي بمدينتها القديمة باتت منطقة منكوبة تستدعي تدخلا مركزيا ..ما فيها لا إلى ولا حتى …

على المداخل ، صور سيارات الإسعاف تتحرك في صف طويل حاملة المصابين وجثث ضحايا الفيضانات والناس تبحث عن مفقوديها …ولا أحد يستطيع تقديم الجواب ، السلطات تؤمن المداخل ويتشبث بعض مسؤوليها بمفهوم “القوة القاهرة” ، التي تعني إنزال اليد أمام كارثة طبيعية ..حتى نشرة الأرصاد لم تشر إليها رسميا وأسقطت أسفي منها ، رغم تحذيرات قادمة من صفحات رقمية لمتخصصين حذروا من عاصفة أطلسية قد تضرب المدينة ..

الطريق بين المستشفى المحلي ومكان الكارثة ظل غاصا بالمشاة .ولحدود كتابة هذه الأسطر ، ما يزال مستودع الأموات وأقسام المستعجلات تستقبل الموتى والمعطوبين ..والأرقام الرسمية إلى حدود صبيحة الإثنين تتجاوز الخمسين من الوفيات وعشرات المفقودين الذين تبحث أسرهم عنهم دون جدوى .

أسئلة موضوعية ..

وقعت الكارثة في أسفي وما تزال المدينة تحصي خسائرها ..نعم هي الأمطار والسيول والمعطى الرباني ..قد يذهب المرء في قبول هذه القدرية ، لكن ذلك لا يعفي  من  الذهاب في التشريح إلى عمق الأشياء …….

بريمو..لدى أسفي مدبرون للشأن المحلي لا يرون في الدخول للعمل الحزبي والوصول إلى تسيير البلدية ، سوى ترقي شخصي والحصول على امتيازات واغتناء سريع وفاحش ..التقارير التي تنجز ، ألا تصل إلى وزارة الداخلية والسلطة السياسية ، الناس ديال الانتخابات  في المدينة لم يعودوا يبالون ، النهب ثم النهب وأخيرا النهب ..

ثانيا ..جزء من مسؤولي الإدارة يعتبر مروره على المسؤولية في المدينة ، هي بمثابة عطلة مدفوعة الأجر ، وبالتالي لا يمكن إلا مجاراة تيار الفساد الذي تغلغل في المؤسسات الإدارية والمنتخبة ..فأسفي باتت حديقة خلفية لشبكات ومافيات المخدرات ..تضاف إليها شبكات الفساد والإفساد السياسي …النتيجة ثروات تدار بمنطق الوزيعة والريع حزبية التوحش والتغول ..والحصيلة صفر تنمية .

ثالثا..ألا يجب فتح تحقيق جدي وعميق في مصير الملايير التي رصدت لهيكلة المدينة القديمة والتي كانت محور زيارة ملكية قدمت فيها كل التفاصيل لتغيير الفضاء التاريخي لها وجعلها مدينة تثمن تاريخها …واليوم وفي السنوات …لم تعلق سوى يافطات وبضع ألواح خشبية صبغت بالأزرق وأحجار زليج متهالك ..وهذه هي الهيكلة ..الحاجة لفتح تحقيق في كل الصفقات والمستفيدين منها والمالئين البطون …

هي فرصة لاسترجاع تاريخ هذه المدينة المناضلة ، التي اعتقد البعض بعدم تاريخيتها ونضاليتها وسقط البعض الآخر في محظور الفساد بعد سن يأس سياسية يجب الحذر منها لدى المناضل والسياسي …لعلها إشارات كافية لوضع الخيوط على تفاصيل ما حل بأسفي ، والتي حاولت هذه الورقة الإعلامية لملمته على عجل …..

 

تحميل مواضيع أخرى ذات صلة
تحميل المزيد في أبرز المواضيع
التعليقات مغلقة.

شاهد أيضاً

عام “عيصوت”

الدكتور المصطفى العياطي | باحث في التاريخ أورد المؤرخ الكانوني في كتابه “علائق أسفي …