العازف والباحث الأكاديمي في تاريخ الموسيقى “عبد الحق وردي”..

78

الحاجة لدينامية جديدة في برامج  ومعاهد التعليم الموسيقي.. 

إهمال التراث الموسيقي المغربي يضعف الهوية الثقافية..

حاوره ..محمد دهنون

الحديث مع موسيقار مغربي وعازف مبرز يجوب العالم ولايتوقف عن التجريب والبحث في موسيقى الإثنيات .. فيه كثير من المتعة المهنية والاستفادة العالمة الدقيقة في مجال لا يقتحمه إلا الراسخون في علم الموسيقى وتاريخها ..أن تحاور مثل هذا المغربي ، يلزمك استدعاء كل الذخيرة المعرفية حول الأنماط الموسيقية ومفاعيل الزمان فيها..التطويح والتلويح بكل الأسئلة المسكوت عنها جهلا أو نكاية ..لعل في هذه الدردشة الصحفية تفاصيل قالها العازف” عبد الحق وردي”تسائل الوضع الموسيقي في المغرب في جوانب محددة لاتدعي الإحاطة بكل الإشكالات بقدر ما حاولت شحذ السؤال .. 

نفتتح لقاءنا الصحفي هذا بمفهوم آخذ في التداول .. “الصناعة الثقافية”..مفهوم اقتصادي مرتبط بالتجاري الربحي تسرب للخطاب التواصلي..هل يتعارض هذا مع ما هو فكري و تاريخي ، أوسنصبح قريبا أمام نوع من التسليع الثقافي والفني مع ما يرافق ذلك من تسطيح وابتذال ؟؟

تطور التكنولوجيا وشبكات التواصل الاجتماعي و تطور المنصات الرقمية ، فسح المجال للموسيقى بشكل عام كي تستفيد من هذا التطور الكبير و المتسارع. وهذا أتاح للعاملين في الموسيقى التقليدية ،فرصة كبيرة لتقديم تسجيلاتهم كمنتوج للبيع من أجل الاستماع.. في ظل غياب الأشكال القديمة كالكاسيت و الأقراص المدمجة.

و بالتالي .. مفهوم الصناعة الثقافية سيساهم في تمويل و حماية التراث و الرفع من قيمته و من قيمة العاملين فيه. هناك تجارب محترمة سبقتنا جعلت من متاحفها قبلة للزوار و تساهم في اقتصاد بلدها ، كذلك دول أخرى كبولندا جعلت من ملابس وبيانو و فنجان و كتابات موسيقية للكبير “شوبان” محجا للزوار من كل أنحاء العالم، بل هذه الأشكال من الصناعة الثقافية هي تكريم جميل لمبدعي البلد على اعتبار أن كل بلد يحتاج إلى أساتذته و أطبائه و مهندسيه و كذلك فنانيه.

في المغرب لدينا تنوع ثقافي وفني كبير وعميق ، أشكال تعبيرية موسيقية مرت ولم يتبق إلا النزر القليل منها .. تبدو الضرورة الملحة  لحماية المخزون الموسيقي المغربي قبل فوات الأوان ؟؟..

إهمال التراث الموسيقي وعدم حمايته بشكل كاف ، عدم إنجاز تسجيلات مفصلة لشيوخ معروفين بخبرتهم وضبطهم لجزئيات الأنماط الموسيقىة المغربية.. سيضيع علينا الكثير من الأسرار الخاصة بتراثنا.

بالإضافة إلى التحولات التي يعيشها المجتمع المغربي ، بفعل التأثير الخارجي وشبكات التواصل المغربي ، أيضا الممارسة الخاطئة للتراث بكل أشكاله ، أصبح لزاما علينا حماية هويتنا الثقافية من الإستلاب و التشويه.

هنالك من الأصوات من تعمل على تحقير تراثنا  والنظر إليه بدونية مقيتة..؟؟

تراثنا هو إرث الأجداد ، وهو ما يميزنا عن الآخر ، وما يمنحنا خصوصية في عالم أصبح متشابها ، كذلك  يوفر لنا أرضية للإبداع والتميز. فالتصالح مع التراث والهوية الثقافية يعني تصالحا مع الذات ، و ربط العلاقة مع الماضي  بالفخر والإعتزاز.

نعرج على معطى ونحن ندردش في حياتنا الموسيقية والفنية معك الأستاذ وردي ..الكتابة الموسيقية و تقوية الجانب الفكري..تصور تنادي به في كتاباتك ومداخلاتك الأكاديمية ..نبغي مزيدا من الشرح و التشريح..؟؟

من حسنات الكتابة الموسيقية و التدوين ، حماية النصوص الموسيقية من الضياع و الاندثار ، تمكين الدارسين و الأساتذة و الباحثين من عزف و دراسة الجمل الموسيقية ، و الوقوف على أساليب الزخرفة و التعبير عند كل الشيوخ الممارسين للعيطة مثلا  أو أي شكل آخر موسيقي.

تساهم الكتابة الموسيقية في تحويل قيمة الأنماط الموسيقية التقليدية الشفاهية إلى أشكال موسيقية راقية و سهلة الفهم ، ومن ثم ستساهم الكتابة في تغيير الفكر الموسيقي ، و الوعي بقيمة التراث الموسيقي كوسيلة للتعبير و التماسك الاجتماعي ، و مرآة تعكس الإبداع المغربي في فترة من تاريخه.

عطفا على ما سبق ..معاهد الموسيقى في المغرب على قلتها وضعف إمكانياتها ومواردها ، لا تهتم بكل الأنماط الموسيقية..تكاد تغرق في الكلاسيكي والغربي .. باستثناء الأندلسي و الملحون..وهذان النمطان يتعامل معهما كحفظ..ليس إلا ..؟؟

هده حقيقة ثابتة في المعاهد الموسيقية. الموسيقى الأندلسية والملحون أنماط موسيقية مهمة في تكوين الهوية المغربية ، استفادت من البحث و التوثيق و التحقيق و الاستمرارية من خلال المتخرجين من المعاهد الموسيقية. لكن العيطة و باقي الأنماط

غير مدرجة في التعليم الفني بالمعاهد الموسيقية ، وهي تشكل أركانا أساسية في الموروث الموسيقي المغربي ، لم تستفد من المعاهد الموسيقية رغم ضعفها على مستوى البحث و التوثيق.

إذا راجعنا المشاريع الموسيقية التي تعنى بالموسيقى الأندلسية و الملحون على مستوى المغرب.. سنجد أفكارا و مشاريع موسيقية عادية ، لا تحمل تجديدا ولا تضمن الامتداد و الاندماج مع موسيقى الآخر باستثناء تجارب جد محدودة. في اعتقادي من اللازم خلق دينامية جديدة في برامج التعليم الموسيقي بالمؤسسات الفنية المغربية.

دائما ونحن نتجول بين المنجز والأعطاب في مشهدنا الموسيقي..نلاحظ قلة الأستوديوهات المحترفة المنضبطة للمعايير العالمية..غياب مدارس متخصصة في الإنتاج..لو شئنا استعارة مفهوم “الصناعة ” ..هل على الدولة مسؤولية الإنجاز أم الأمر يوكل للقطاع الخاص كما في تجارب دولية..؟؟ 

المغرب بلد صاعد.. يسعى إلى التقدم في عدة مجالات ، رغم الكثير من المعيقات والمطبات. لكن في المجال الفني  لازلنا نفتقر إلى بنية قوية ، تساهم في خلق صناعة ثقافية  وفي تحسين أوضاع الفنانين اجتماعيا ، و ترفع من قيمة الفن داخل المملكة ، و تساهم في الاقتصاد بشكل محترم.

التجارب التي سبقتنا سواء في أوروبا أو آسيا كان للقطاع الخاص دور كبير في خلق مقاولات صغرى و متوسطة ، تشتغل في الفن و الثقافة ، تستفيد من دعم الدولة من خلال إعفاء ضريبي كلي أو جزئي .. هكذا حققت تقدما محترما اقتصاديا ،وعززت الحفاظ و الترويج لتراثها الثقافي و الفني.

نصل اللحظة لموضوع مهم..العيطة ..لها قواسم مشتركة مع موسيقى الأطلسي و شمال الضفة..لا نعلمها..غياب البحث الموسيقي يعطينا جهل بأنماط موسيقية مثل العيطة.. في أمريكا اللاتينية أنماط و إيقاعات و تعبيرات مغيبة..نريد تفاصيل ضافية..؟؟

تحمل العيطة  مقومات موسيقية ، ما يؤهلها للاندماج مع أنماط موسيقية أخرى سواء ما وراء الأطلسي أو في الضفة الشمالية. فالعيطة خطاب موسيقي يتقاطع مع خطابات موسيقية أخرى رغم اختلاف الجغرافيا ، مما يشكل تكاملا على اعتبار أن الإنسان المغربي لم يكن مستقرا و كان دائم الترحال و التنقل ، ما جعله مؤثرا في العديد من الثقافات العالمية.

غياب البحث الموسيقي الجاد و معرفة ملمة بالتاريخ ، جعل الاتصال منقطعا بين العيطة و بين شبيهها من الأنماط من موسيقى العالم إيقاعا و أنغاما و صناعة للآلات في بعض الأحيان.

في أمريكا اللاتينية.. المكسيك  و أمريكا الجنوبية ، الشيلي على سبيل المثال ، هناك من الإيقاعات و الجمل الموسيقية ، وكذلك أسلوب التعبير.. ما يخلق صدمة كبيرة لدى المستمع المغربي أو الشيلي أو المكسيكي.

فالقواسم المشتركة المتعددة و المتنوعة تعكس التأثير و التأثر الثقافي الذي خضعت له هذه البلدان ما بعد سقوط الأندلس ، و دور المغرب أثناء الهجرة إلى هذه الجغرافيا المكتشفة آنذاك… لا يسعني الحديث  للتفصيل في التشابه على مستوى الرقصات التقليدية والموسيقى والإيقاعات وطرق الغناء ..إلى التشابه كذلك في نظام السقي و الفلاحة التي تتطابق مع نفس النظام الفلاحي في مناطق درعة و الجنوب الشرقي من المغرب.

هذا يحيل على التشابه بين نمط العيطة في بعض مناطق إسبانيا و فرنسا مع المغرب…كيف تشرح هذا الأمر..؟؟

تاريخ المغرب كان مرتبطا بإسبانيا و فرنسا من خلال الأندلس و التأثير الكبير الذي لعبته المملكة الشريفة في استقرار الحكم بالضفة الشمالية ، و امتداده إلى بعض الأراضي الفرنسية من خلال التأثير الأمازيغي و العربي… لا يخفى أيضا على أي باحث في التراث الموسيقي العالمي التشابه الكبير في الموسيقى التقليدية بين دول الجوار.

ففي شمال اسبانيا مثلا توجد رقصة “الخوطا” و هي نمط موسيقي تقليدي ، يجمع الرقص و الموسيقى و يتقاسم مجموعة من النقط مع العيطة  و مع أنماط أخرى من التراث الموسيقي المغربي ، على اعتبار أن “الخوطا الاسبانية”.. هي من ابتكار “ابن خوتا” العربي في القرن الثاني عشر.

ينطبق الحال كذلك على فرنسا التي تتوفر على مجموعة من الأنماط الموسيقية التقليدية على امتداد خريطتها و التي تتقاطع مع العيطة على مستوى الإيقاع و الموسيقى ، وكذلك المتون التي تتغنى بالفلاحة و المواسم و الحرب و السلم و تعكس جانبا كبيرا من حياة الناس.

يلاحظ على العديد من أساتذة الموسيقى في المغرب أنهم يستعرون ويتجاهلون العيطة.. و هو جهل بالتراث و بمكون من مكونات هويتنا.. كلام صادم..؟؟

التشويه الذي تعرضت له الثقافة الشعبية عموما و العيطة خصوصا ، جعل  الكثير من المغاربة و أساتذة الموسيقى يتعاملون مع العيطة كنمط موسيقي يستعمل في الأعراس و المناسبات المغربية فقط ،  و كذلك عدم إحتضان المعاهد الموسيقية لهذا الموروث الموسيقي ، جعل أساتذة الموسيقى قسم التكوين الشرقي ..لا يعطون أهمية لهذا النمط ، بل ينظر إليه كموسيقى دون المستوى و مرتبطة بطبقة الفقراء و الأميين من المجتمع المغربي.  تدني المستوى الفكري في النسيج الاجتماعي المغربي،  بما فيهم الأساتذة الموسيقيين جعلهم في قطيعة على   مستوى التدوين الموسيقي و البحث و النبش في الذاكرة الموسيقية الشعبية المغربية…

 

عودة أساتذة الموسيقى للمصالحة مع العيطة…هي فكرة كبيرة هل لك أن تتوسع فيها..؟؟ 

لا يخفى على أي مهتم بالتراث المغربي ، و خصوصا العيطة أو الفنون الشعبية عموما ، تقصير أساتذة المعاهد الموسيقية في الاهتمام بهذا النمط من الموسيقى المغربية ، نتيجة تراكمات ثقافية و اجتماعية تنظر إلى هذا الموروث نظرة دونية و لا تعطيه قيمته الفنية و الجمالية التي تناسب تاريخه و حمولته الثقافية. فالمعاهد الموسيقية يجب ان تحتضن جميع الأنماط الموسيقية التي تعكس الهوية المغربية و تساهم في الرفع من قيمتها كشكل من المصالحة و إعادة الاعتبار..

ضرورة تدريس العيطة على المستوى الوطني..التكوين و الحماية و الاستمرارية لمنح هوية و خصوصية عالمية….يبدو أنك تحمل تصورا عميقا..نريد توسعا في هذه الفكرة ؟؟..

يجب أولا تدريس العيطة ضمن مجالها الجغرافي أي بأسفي ، لقرب الشيوخ و العارفين بأسرار العيطة من المعهد الموسيقي ، و من ثم توسيع هذه الفكرة في معاهد موسيقية بمدن تعتبر العيطة فيها إرثا محليا ، و هكذا سنضمن الحفاظ على هذا الموروث الموسيقي الغني و الجميل.

إذا راجعنا عددا كبيرا من موسيقى أفلام العالم بشتى أنواعها الوثائقية و التاريخية و الدراما و أنواع أخرى ، فإن حضور التراث الموسيقي المغربي ضعيف جدا.. اللهم بعض الاستثناءات ، مما يدفعنا إلى التفكير في خلق آليات جديدة و إبداع أفكار جديدة ، من أجل ضمان حضور التراث المغربي الموسيقي بشكل راق يتعدى حصره بصورة ضيقة في السياحة فقط.

مركز أكاديمي خاص بالعيطة..هذا الاقتراح يتبناه العديد من الباحثين..لم لا ..؟؟

المصالحة و إعادة الاعتبار للعيطة ، لا يقتصر على مهرجان وطني لمدة ثلاثة أيام.. بل يستحق إنشاء مركز فني للتوثيق و حماية هذا النمط من الموسيقى المغربية التقليدية المرتبطة بمكون إثني للمجتمع المغربي ، له من العادات و التقاليد و الخصوصية الثقافية .. ما يفرض إنشاء هذا المركز الذي يضم باحثين متخصصين في الموسيقى.التبوريدة..الزجل.. مهن شعبية…تعكس غنى المجتمع المغربي والقواسم المشتركة مع العالم.

نختم هذه الدردشة بهذا السؤال  ..الإثنيات لها موسيقاها و مكونها الموسيقي..

الجامعة المغربية لا تهتم بالموسيقى الإثنية..ولا تتماشى مع المجهودات التي يقوم بها باحثون في هذا المجال ..يبقى الأمر مجرد بحوث ودراسات أكاديمية تستقر في الأرشيف الجامعي..؟؟

لكل مكون إثني وموسيقاه و عاداته و تقاليده. و موسيقى الإثنيات هو تخصص يمكن من دراسة موسيقى الشعوب ، و تطورها ومن خلالها معرفة خبايا تطور المجتمعات ، من خلال الموسيقى.

علم “الأنثروبولوجيا” يتقاسم أشياء كبيرة مع هذا التخصص الذي يحتاج معرفة موسيقية معمقة لدراسة تطور مجتمع ما. لكن الجامعة المغربية متخلفة جدا في هذا المجال ، و لم تفتح أبوابها لاحتضان مسالك تعنى بهذا التخصص المهم ، و الذي فك رموز و أسرار العديد من الحضارات التي ظلت عصية على كبار الباحثين غير الملمين بالموسيقى.

هذا الغياب يعكس الفكر العام السائد في مجتمعنا ، و الذي ينظر إلى الموسيقى كتسلية و لا فائدة منها ، و هو ما يتنافى مع عمق و نبل الموسيقى علما و فنا و لغة عالمية ،و لولاها لما ساهم فيثاغورس و أرسطو  وابن سينا و الفارابي و الكندي و آخرون في ترك بصمتهم في تغيير وكتابة تاريخ العالم.

تحميل مواضيع أخرى ذات صلة
تحميل المزيد في ثقافة وفن
التعليقات مغلقة.

شاهد أيضاً

الشركة الجهوية متعددة الخدمات مراكش أسفي.. التماطل في تحويل مستحقات نفقة الأبناء

وجهت الأستاذة الجامعية والحقوقية لبنى الجود رسالة عبر صفحتها بالفايسبوك  إلى الشركة الجهوي…