الأمثال و الحكم : نموذجان مغربيان

358

بقلم محمد زُعَيْر

            تتميز الثقافة الشعبية المغربية بتنوع روافدها الاجتماعية ، و المتأمل في النسيج الاجتماعي يكتشف أن المغاربة خليط من عرب وافدين من المشرق ، و أمازيغ اعتنقوا الإسلام إبان الفتوحات الإسلامية ، وأندلسيين استوطنوا شمال المغرب بعد سقوط الأندلس ، و صحراويين .

            ورغم هذا التنوع البشري إلا أن الشخصية المغربية احتفظت بمشخصاتها الوطنية عبر التاريخ ، وجعلت غير المغاربة ممن وفدوا إلى المغرب و استقروا فيه يتمغربون أي يكتسبون العقلية و الذهنية المغربية .

            لقد كان لهذا التنوع البشري مترتبات دينية و ثقافية و فنية و اجتماعية وسياسية حتى قال شاعرهم محمد الحلوي رحمه الله :

لَسْتَ تَلْقَى كَالْــــــمَغْرِبِ الْفَذِّ أَرْضا

وَلَوْ اجْتَزْتَ الْأَرْضَ طُولاً و عَرْضاً

ذِي بِـــــــــلادِي يَنْهالُ مِنْها اعْـــــتـــــــــِزازِي

نَـــــابِــــــضٌ حُـــبُّهَا مَعَ الـــــرُّوحِ نَـــــبـْضاً

            و لا ريب أن هذا التنوع جعل المغرب فذا ، متميزا ، شامخا بخصوصياته ، معتدا بثقافته ، تلك الثقافة التي تعتز بعروبتها الممتدة إلى المشرق العربي،  و أمازيغيتها المتغلغلة في ربوع الأطلس الشامخ بجباله  و قبل ذلك و بعده بإسلاميتها ،  

            إن الذاكرة الشعبية المغربية مثلها مثل نظيراتها عند سائر شعوب العالم ، حبلى بالأمثال و الحكم ، وقد جرت على ألسنة المغاربة أمثال وحكم تنهل من نبع حياتهم الفياض و تغتذي من صميم واقعهم الثر  المتعدد، وغدت تعبيراتٍ سائرةً ، تتميز بتصوير مواقف شتى في إيجاز يجمع بين سلامة الفكرة وقوة التعبير و صدقه ،  و هي بذلك تختصر خبرة مبدعها بالحياة ، و لا ريب أن ذلك يُعْزى إلى أنها لم تصدر من أفواه السُّذَّج الغُفَّلِ ، الذين ما خبروا الحياة و لا عركتهم تصاريفها ، و لكنها  صدرت عن أشخاص تمرسوا بالحياة فصقلتهم و أخرجت أروع و أجمل ما فيهم .                         

            وكشأن سائر الأمثال و الحكم في شتى ثقافات العالم ، فإنها تخرج من رحم التجربة لا يُعْلَمُ لها صاحب ، فهي ابنة المجتمع و سليلته ، وضعتها التجربة بعد مخاض  و تلقفتها الآذان  و صقلتها الأيام ، فامتزجت بدماء الروح و تبوأت من القلب سويداءه . تتماثل تارة و تتعارض أخرى ، حتى ليخيل إليك أن ثقافتنا تؤمن بالشيء و نقيضه في الآن نفسه ، و هي في تماثلها و تعارضها تنفصل عن سياق إنتاجها لتنخرط في سياقات أخرى ، مقدمة نفسها في صورة الناصح الأمين و المعلم المشفق و المربي .

             وحتى لا يطول بنا الحديث عن الأمثال و الحكم و هو ما أغنت عنه كتب قديمة و حديثة حفلت بتعريفها و بيان خصائصها و الحكمة منها ، أضع بين يدي القارئ نموذجين من الأمثال و الحكم باللهجة المغربية ، و أنا أدرك تماما الإدراك ما قد يجده غير المغربي من صعوبة في فهم هذه اللهجة ، حتى ليخيل لأحدهم أننا نتكلم لغة عامية لا صلة لها باللغة العربية ، و في هذه العجالة سنعمل على تجلية ما قد أشكل من معانيهما مبرزين خصائها الفنية و الجمالية ما استطعنا إلى ذلك سبيلا . ودونكم هذين النموذجين  :

  • النموذج الأول : ” كُونْ كانْ الخوخْ يٍداوي كُونْ دَاوَى راسو”

            هذا مثل مغربي أصيل تجري به ألسنة المغاربة ، و ترجمته الحرفية هي ” لو كانت فاكهة الخوخ تعالج لعالجت نفسها ” . و لعل أقرب مثل إلى هذا المثل المغربي هو المثل المصري ” جِيبتك يا عبد المعين تِعينى لِقِيتك يا عبد المعين عايْز تِتْعانْ ” ،

            على أن الناقد البصير يدرك بدون أدنى صعوبة الفرق بين هذين المثلين المغربي و المصري ، و حتى لا يفهم كلامي على نحو خاطئ ، أجدنا مضطرا إلى التأكيد على أنني لا أقارن بين الأمثال المغربية و الأمثال المصرية في عمومها ، و لكنني بصدد توضيح ما بين هذين المثلين من فوارق في تقديم مضمون يكاد يكون واحدا و هو ” لا تنتظر أن يساعدك من يحتاج هو نفسه إلى المساعدة ” .

            الخوخ فاكهة صيفية بامتياز ، ميزته سرعة فساده و تلفه ، فهو لا يصبر مثل التفاح خاصة إذا أصابه البلل ، و قد استعارت الذاكرة الشعبية المغربية هذه الفاكهة التي تحتاج إلى عناية شديدة ، و جعلتها رمزا لتعبر به و من خلاله عن استحالة طلب شيء من فاقده . و لعل لهذا المثل سياقا ، فهو يستعمل حينما يلتجئ الإنسان إلى شخص و هو يأمل أن يجد عنده العون و المساعدة ، لكنه يرجع بخفي حنين ، بل ويتأكد لديه أن ذلك الشخص هو نفسه في حاجة إلى المساعدة .

            لقد استعارت الذاكرة الشعبية المغربية عناصر هذا المثل من الطبيعة ” الخوخ ” و اعتمدت في تصوير المعنى ” عدم النفع ” على ما تراه العين حقيقة  من فساد الخوخ و سرعة تلفه ، و هو معنى حسي يصور تصويرا بليغا المعنى الذي سيق له .

            على أن المثل المغربي فيه موسيقى و إيقاع داخليان يتجليان في تكرار حروف بذاتها “تكرار حرف الكاف ثلاث مرات ”  و تكرار ” كون كان ” مرتين  ، و كلمة ” يداوي” مرتين . و لا يخفى ما في المثل المغربي من إيحاء مستمد من الرمز و كثافة في التعبير   ، و امتداد أفقي و عمودي ، إذ يمكن بكل سهولة إسقاط المعنى المستبطن على سياقات شتى ، و وضعيات متماثلة سواء تعلق الأمر بالمتكلم أو المخاطب ، فكلاهما يمكنه توظيف المثل متحدثا عن نفسه أو متحدثا عن غيره  .  هذا المثل باختصار شديد تشخيص لمعنى عقلي  في صورة حسية مستمدة من واقع ملموس .

  • النموذج الثاني :  ” الِّلي يِتْصاحَبْ مع الكَرَّابْ يِتْصاحَبْ مْعاهْ في الَّليالِي “

            ولنقف قليلا عند مفردات المثل : “اللي ”  تعني الذي ، و ” الكراب ”  تعني السقاء الذي يحمل على ظهره قربة من جلد الماعز في الغالب مملوءة بالماء ، و ” الليالي ” عند المغاربة  هي أشد أيام فصل الشتاء برودة ، و تمتد من الخامس و العشرين من الشهر الأخير من السنة الميلادية (25 دجنبر )  إلى اليوم الثاني من الشهر الثاني ( 2 فبراير ) ، وهي أربعينية فصل الشتاء المعروفة بقساوة الطقس و برودته ، و للمغاربة فيها طقوس و عادات فلاحية و  اجتماعية ، في مأكلهم و ملبسهم ، يتقون بها نوازل برد الأربيعين ليلة ولفح زمهريرها .

            و من وجباتهم المعتادة في هذه الأيام ، تحضير الكسكس بسبعة أنواع من الخضروات الموسمية ، لحاجتهم إلى مأكولات ساخنة خاصة بالليل ، و احتشاء الشاي بالشويلاء ” الشيبة عند المغاربة ” .

            و لا يكتفي المغاربة بذلك ، بل يحرصون على ارتداء الجلابيب الصوفية التي تحمي من لسعات البرد . و لست هنا بصدد عد و إحصاء عاداتهم في المأكل و المشرب و الملبس ، فكثير  من تلك العادات  واراها النسيان في ظل التحولات التي يعرفها المجتمع المغربي خاصة في المدن الكبرى ، لكنها لا تزال تحافظ على وجودها في مناطق الأطلس ، حيث تتساقط الثلوج بكثافة حتى لكأن هذه الجنة من بلاد المغرب بقعة اقتطعت من أوروبا ، و في البوادي و الأرياف حيث لا يزال الناس في منأى عن زخرف المدنية الزائف .

            وفي ظل هذه الأجواء الزمهريرية نسجت الذاكرة الشعبية  أمثالا و حكما أخرى ذات صلة بهذه الليالي منها على سبيل المثال :  ” ” إِيلَى رْواتْ فِ الليالي عَوَّلْ على السمن بِ لَقْلالي”، و معناه إذا ارتوت الأرض بالماء في الليالي فسيفيض الخير و يكثر السمن و يحتاج إلى عدة قُلَلٍ لحفظه .

            و يقسم المغاربة الليالي إلى ” ليالي مسعودة ” و  ” ليالي غير مسعودة ” ، ولأن المغاربة بطبعهم متفائلون ، فأفضل الليالي عندهم هي ما كان الغيث ينزل فيها بالليل دون النهار ، لحاجتهم إلى الشمس بالنهار لمباشرة أعمالهم و قضاء حاجاتهم ، و هو ما عبروا عنه بالمثل التالي ” الليالي المسعودة تَنْزَلْ الشتا بالليل والنهار مفقودة “ ، و المقصود بالشتاء في ثقافتنا الشعبية المطر .

            و في ظل هذه الأجواء التي يبتهج بها الفلاحون ، هناك شخص تتعطل حركته و تنغلق في وجهه سبل تحصيل الرزق ، إلا ما كان قد حصله من قبل ، فقد كسدت بضاعته ولم يعد أحد يشتري منه الماء ،  ذلكم الشخص هو ” الكراب ” أي السقاء ،  

            و لنعد  مرة أخرى إلى المثل الذي انطلقت منه : ” الِّلي يِتْصاحَبْ مع الكَرَّابْ يِتْصاحَبْ مْعاهْ في الَّليالِي ” . و أعتقد أنه بعد هذا البيان أصبح معنى المثل واضحا ، فالسقاء ” الكَرَّابْ ” لا يحتاج إلى الأصحاب في وقت الصيف لحاجتهم إلى مائه و هم يتلظون عطشا ، فحاجتهم إلى الماء تغنيه عن مصاحبتهم ، لكنه في ظل أجواء الليالي حيث لا يحتاج ماءه أحد يكون في مسيس الحاجة لمن يقدم له يد المساعدة و يحسن إليه ، إذ هو ملهوف في حاجة إلى الإغاثة ، و كما قيل ، فالصديق وقت الضيق .

            و لعل المغاربة يضربون  هذا المثل للصديق أو الشخص العزيز الذي كنت تأمل منه مساعدة وقت حاجتك إليه و هو قادر على تقديمها ، لكنه يَقْلِبُ لكَ ظَهْرَ الـمِجَنِّ ، فيتعامى عن رؤيتك و يتصامم عن سماعك ، فتجده يحرص على مودتك ساعة يسرك ، و يتجافى عنك ساعة عسرك .

            و أخيرا فإنه لا يخفى ما في المثل من توظيف للرمز ، فَ ” الليالي ” ترمز للشدائد و المحن التي يكابدها الإنسان كما هو الحال في كل جنبات الأرض ، و ما مصاب  غزة المنكوبة اليوم عنا ببعيد   ، و ” الكَرَّابْ ”  رمز للملهوف كما هو حال المنكوبين هناك ، الذين باتوا يفترشون الأرض و يلتحفون السماء يتربص بهم عدو قلب ظهر المجن لكل القيم الإنسانية النبيلة  ،

على أن اقتران الكلمتين ” الليالي و الكراب ” في سياق واحد يجعلك تشعر بزمهرير  فصل الشتاء و تستشعر حاجة كل ملهوف في بلاد الله الواسعة إلى ما يخفف عنه ما ألم به ، مما يستجيش فيك المبادرة إلى الإحسان قبل أن يُطلب منك .

تحميل مواضيع أخرى ذات صلة
تحميل المزيد في ثقافة وفن
التعليقات مغلقة.

شاهد أيضاً

هل ينجو وفاق آسفي من العجز؟.. رهانات الموسم الجديد بعد الجمع العام

عقد نادي وفاق آسفي لكرة القدم جمعه العام العادي يوم الأحد 3 غشت، وسط أجواء طغى عليها النقا…