بقلم ذ / محمد زعير
الوقت ضحى و الرعاة من ” خَمَّاسَة ” ، و أطفال دوار ” طاليعوك ” ، وشبابه يتشحون الفقر و ينتعلون البؤس ، قد استمرؤوا حياتهم على شظفها ، و عقدوا صداقات مع بعضهم وقبل ذلك مع عجولهم و أبقارهم و خرافهم ، يشاركونها شمس الربيع و خُضْرَةَ الـمُروجِ .
الخضرةُ ممتدةٌ على حد البصر في حقول تضج بسنابل القمح و أشجار الذرة المشرئبة في عنفوان إلى السماء تستجدي آخر قطرات الربيع ، وأعمدة الكهرباء منتصبة كأنها حارس يقظ يرمق هامات الرعاة و البهائم وهم يسرحون و يمرحون .
نَزَلتِ الشمسُ في كبد السماء ، و اشتد وهَجُهَا ، فأما الخرافُ و الأبقارُ فقد أَوَتْ إلى ظل الأشجار الوارفة على جنبات الطريق الممتدة في خطوط متعرجة من ” طالعوك ” إلى مدينة الرماني ، و من طاليعوك إلى أَحَدِ البراشوة ، و منها إلى مدينة عين عودة بعد أن ارتوت ماءً من الآبار المتاخمة للحقول ، و شعرت بالارتخاء . فظِلُّ الأشجارِ هو الملاذ الوحيد لاتقاءِ حَرِّ الهاجرةِ . وأما كبارُ السن من الرعاة ، فقد استسلموا لقيلولة مشوبة بالحذر من أن تدهس الحافلات القادمة من بني ملال أو الفقيه بن صالح أو الجرارات التي تخوض الطريق جيئة و ذهابا الدوابَّ الشاردةَ عن القطيع ، بينما جَثَتِ العجولُ على رُكَبِهَا ، و أغمضت أعينها ، وشرعت تجتر ما كانت قد سَرَطَتْهُ أمعاؤها من عشب في انتظار أن تحفل ضروع أمهاتها باللبن الذي ستقتسمه مع ربَّاتٍ الخِيامِ في المساء بعد أن تُعْقَلَ البقراتُ و تُحْلبَ .
و لا تزال بقايا من نوم الليل تداعب أجفان الرعاة الذين أَلِفُوا الاستيقاظَ قبل أن ترسل شمس الربيع أولى أشعتها معلنة بداية يوم ربيعـيٍّ .
أطفال بعض الرعاة لا يعرفون للقيلولة معنى ، ها هم الآن قد جلس كل اثنين منهم متقابِلَيْنِ ، وقد حفر كل منهما ثلاث حفر أمامه بعد أن جمعوا ” البَرِّيوْ ” : حباتٍ من بقايا الأغنام الجافة ، أو جلبوا معهم بعض حبات الحمص ، يلعبون بها لعبة ” زْدَاكْ لْبَاكْ ” ، يكسرون بها رتابة الوقت في انتظار أن يستيقظ الكبار من قيلولتهم التي لا تدوم أكثر من نصف ساعة .
لعبة ” زْدَاكْ لْبَاكْ ” يتسلى بها الرعاة كبارا وصغارا ، ذكورا و إناثا ، الأطفال يحفظون قواعد اللعبة جيدا . يبتدئ اللعب بأن يضع كل لاعب ست حبات في كل حفرة من حُفَرِهِ الثلاث ، ثم يأخذ المنافس المبتدئ حباتٍ من إحدى حفره ، و يقوم بتوزيعها على بقية الحفر الخمس الأخرى بالترتيب ، فإذا وصل إلى حفرة و كانت الحبة التي سيضعها فيها قد استوفت عددا زوجيا أفرغ الحفرة ووضع الحبات جانبا إلى أن يَتَحَصَّلَ على أكبر قدر من الحب ، فيكون الفائز ، ثم يقوم المنهزم و يتم استبداله بلاعب آخر إلى أن يَدِبَّ الكلل في اللاعبين .
لم يستسلم الشبان للقيلولة فكان لهم شأن آخر مع اللعب ، فقد انقسموا إلى مجموعتين ، كل فرد في المجموعة ينثني راكعا ممسكا بالآخر على مثل هيئته من خاصرته ، ثم يقوم أفراد المجموعة الثانية بالقفز على ظهورهم ، فإذا صمد الفريق الراكع ولم يسقط أحد أعضائه أرضا ، فاز الفريق الصامد ، و تعود الكَرَّةُ على الفريق الثاني ، وقد يتجاذبون طَرَفيْ حَبْلٍ صنعوه هم أنفسهم من شجر الدَّوْمِ ، بينما آثرَ الرعاة من النساء أنْ يراقبن اللعبة عن كثب و عيونهنَّ على أبقارهن و عجولهن و خرافهن التي ينبغي أن تعود سالمة إلى زرائبها قبيل المغرب بقليل .
وحده كان ولد عمر ” الشفناج ” منعزلا ، نسي أهل الدوار اسمه و لم يعد يحلو لهم مناداته إلا ب ” الشَّلِيَّحْ ” ، لم يَقِلْ كما قال زملاؤه من الرعاة ، ولم يَلْهُ كما لَهَوْا ، لكنَّ عينيه كانتا تحدقان في الأعمدة الكهربائية ذات التوتر العالي الذي يزود المحطات ، فتحوله إلى تيار قابل للاستعمال المنزلي . أعمدة مبثوثة على طول الأرض التي كستها الخضرة حلة ربيعية بهيجة . لا يدري من أين أتت تلك الأسلاك الكهربائية ، و لا إلى أي جهة تمضي ، فقط مقلاعه في يده ، يصيب به الطيور التي تقف فوق تلك الأسلاك لتستريح في انتظار أن تقلع مرة أخرى لوجهة غير معلومة . شاب يعشق المغامرة و ركوب الصعاب ، و لا يعرف معنى للخوف ـ يستغربُ فضولُه وجودَ كؤوسٍ خضراءَ فوق تلك الأعمدة على طرفي الأسلاك .
عاد عمر ” الشفناج ” من السوق رفقة ابنه حسن يمتطيان بغلة وقد أمضيا يوما شاقا في بيع السَّفَجِ ، مهمة شاقة تقتضي إعداد العجين في البيت و تركه يخمر ، و تنظيف المعدات من مقلاة و مخطاف وغير ذلك مما لا غنى عنه ، والاستيقاظ قبل الفجر و الانتقال على ظهر بغلة حَرُونٍ إلى الأسواق الأسبوعية . عمل رتيب ، لكن لا غنى عنه على الأقل ثلاث مرات في الأسبوع .
عاد الأب عمر و ابنه حسن و قد وجدا زهرة متربعة تضع القصعة على فخذيها تفتل الكسكس لطعام العشاء في إجهاد بعد أن كنست الزريبة في انتظار عودة الخراف و البقرات ، وفي انتظار البقرة ذات العجل خاصة لتحلبها و تروي بحليبها الكسكس ، فالكسكس بالحليب أحد الأطاييب التي يحب عمر أن يأكلها من يد زوجته خاصة لا من يد غيرها من بناته .
قالت زهرة لعمر بعد أن جلس القرفصاء إلى جانبها :
- أوشكت الشمس أن تغيب و ” الشَّلِيَّحْ ” سيتأخر كعادته في اللهو و اللعب ، الله يلعنــها قاعدة !!
كان الشَّلِيَّحْ منتشيا ، قد ملأه الزهو و قد أصاب حَمَامَةً ، هو الآن يُمَنِّي النفسَ بِشَــيِّــــــهَا مساءً على جمر الفرن المنتصب خارج السور المحيط بالخيمة ، بعدَ أن تَفْرُغَ أخته من طهي الخبز . نتف ريشها ، و أخلى أحشاءها ، و وضعها في قُبِّ جلبابه في انتظار أن تتأهب الشمس للغروب .
ظلت كؤوس الأعمدة الكهربائية تداعب مغامراته ، و لحظة قال لزملائه في غرورٍ :
- كم تعطونني إذا تسلقت العمود و لمست كأسا من تلك الكؤوس ؟
استغرب الرعاة كذا مغامرةٍ ، و لم يعيروا اهتماما لِـمَا يقوله ، لكن لا مبالاتهم ألقت به في أَتُــونِ مجازفةٍ لا يُقَدِّرُ عواقبها ، فاندفع الشَّلِيَّحْ يتسلق العمود في ذهول من الجميع ، حتى شارف القمة ، ثُمَّ قال في تحد رافعا يدا إلى السماء شَارَةً للنصر ممسكا بيدٍ أخرى عمود الكهرباء :
- آش كاين دابا ؟! واش رجل أُولَا لا؟
قال ولد الخماس مترجيا الشَّلِيَّحْ أن ينزل أدراجه :
- أنت رجل ونصف ، فقط انزل الله يخليك …
أَشْعَلَ رجاءُ وَلَدِ الخَمَّاسِ فَتيلَ الـمُكابَرَةِ في نفسه ، فَهُمَا معًا على طَرَفَيْ رِهَانٍ دائِبٍ ، يتنافسان حتى على ركوب الحميرِ و البغالِ التي ما زالت لم تُرْكَبْ بَعْدُ ، و كلماته ربما لا تروم إلا تَثْبيطَهُ عما عزم عليه من التحدي .
و دون أن يباليَ بتحذيرات الرعاة ، وضع الشَّلِيَّحْ يده المعروقة على الكأس ، فأمسكـــه السلكُ الكهربائيُّ بكل ما أوتي من توتر ، و ألقى به جثةً متفحمةً بعد أن رجَّهُ رَجَّاتٍ متتاليةً ، وتلاعب بجسده إلى أن انطفأ نور الدنيا عنه واختفى عنها باختفاء قرص الشمس خلف تَـلَّـةٍ في صدمة من أصدقائه الرعاة .
تَهَيَّبَ الجميع إشعارَ خيمتِه ، لكن النبأ المشؤوم كان قد ملأ الدوار ، وبدأ أهله يتهامسون بما حصل .
أظلم الدَّوَّارُ بما فيه و من فيه ، وَ وُورِي جثمان ولد عمر الثرى بعد ثلاثة أيام كان الجسد المُتَفَحِّمُ فيها ضيفا على مستودع الأموات في انتظار استكمال التحقيق .
نُصِبَتِ الخيامُ للعزاء ، و توالت قَصْعاتُ الكسكس من كل حَدَبِ و صَوْبٍ على خيمة عمر . لم يُدِنْ تحقيقُ رجالِ الدَّرَكِ أحدا من الرعاة ، لكن شيئا لا يزال إلى الآن عالقا بذاكرة سكان الدَّوَّارِ . العمود الكهربائي الآن يسمى ب ” رْكِيزَةْ ولد عمر ” ، و أمست ركيزةُ وَلَدِ عُمَرَ عمودا لا كالأعمدة الإسمنتية المترامية الأطراف ، لكنها عمودٌ يُؤَرِّخ به الدوارُ بَعْضَ أيامه تماما مثل ” حريقة أولاد علي ” التي سار بذكرها الركبان .