قصة قصيرة…” رْكِـــيــــــــزَةْ ولد عمر “

130

بقلم ذ / محمد زعير

الوقت ضحى و الرعاة من ” خَمَّاسَة ” ، و أطفال دوار ” طاليعوك ” ، وشبابه يتشحون الفقر و ينتعلون البؤس ، قد استمرؤوا حياتهم على شظفها ، و عقدوا صداقات مع بعضهم وقبل ذلك مع عجولهم و أبقارهم و خرافهم ، يشاركونها شمس الربيع و خُضْرَةَ الـمُروجِ .

الخضرةُ ممتدةٌ على حد البصر في حقول تضج بسنابل القمح و أشجار الذرة المشرئبة في عنفوان إلى السماء تستجدي آخر قطرات الربيع ، وأعمدة الكهرباء منتصبة كأنها حارس يقظ يرمق هامات الرعاة و البهائم وهم يسرحون و يمرحون .

نَزَلتِ الشمسُ في كبد السماء ،  و اشتد وهَجُهَا ، فأما الخرافُ و الأبقارُ فقد أَوَتْ إلى ظل الأشجار الوارفة على جنبات الطريق الممتدة في خطوط متعرجة من ” طالعوك ” إلى مدينة الرماني ، و من طاليعوك  إلى أَحَدِ البراشوة ، و منها إلى مدينة عين عودة بعد أن ارتوت ماءً من الآبار المتاخمة للحقول ، و شعرت بالارتخاء . فظِلُّ الأشجارِ هو الملاذ الوحيد لاتقاءِ حَرِّ الهاجرةِ . وأما كبارُ السن من الرعاة ، فقد استسلموا لقيلولة مشوبة بالحذر من أن تدهس الحافلات القادمة من بني ملال  أو الفقيه بن صالح أو الجرارات التي تخوض الطريق جيئة و ذهابا الدوابَّ الشاردةَ عن القطيع ، بينما جَثَتِ العجولُ على رُكَبِهَا ، و أغمضت أعينها  ، وشرعت تجتر ما كانت قد سَرَطَتْهُ أمعاؤها من عشب في انتظار أن تحفل ضروع أمهاتها باللبن الذي ستقتسمه مع ربَّاتٍ الخِيامِ في المساء بعد أن تُعْقَلَ البقراتُ و تُحْلبَ  .

و لا تزال بقايا من نوم الليل تداعب أجفان الرعاة الذين أَلِفُوا الاستيقاظَ  قبل أن ترسل شمس الربيع  أولى أشعتها معلنة بداية يوم ربيعـيٍّ  .

أطفال بعض الرعاة لا يعرفون للقيلولة معنى ، ها هم الآن قد جلس كل اثنين منهم متقابِلَيْنِ ، وقد حفر كل منهما ثلاث حفر أمامه بعد أن جمعوا  ” البَرِّيوْ ” : حباتٍ من بقايا الأغنام الجافة ، أو جلبوا معهم بعض حبات الحمص ، يلعبون بها لعبة ” زْدَاكْ لْبَاكْ ” ، يكسرون بها رتابة الوقت في انتظار أن يستيقظ الكبار من قيلولتهم التي لا تدوم أكثر من نصف ساعة .

لعبة ” زْدَاكْ لْبَاكْ ” يتسلى بها الرعاة كبارا وصغارا ، ذكورا و إناثا ، الأطفال يحفظون قواعد اللعبة جيدا . يبتدئ اللعب بأن يضع كل لاعب ست حبات في كل حفرة من حُفَرِهِ الثلاث ، ثم يأخذ المنافس المبتدئ حباتٍ من إحدى حفره ، و يقوم بتوزيعها على بقية الحفر الخمس الأخرى بالترتيب ، فإذا وصل إلى حفرة و كانت الحبة التي سيضعها فيها قد استوفت عددا زوجيا أفرغ الحفرة ووضع الحبات جانبا إلى أن يَتَحَصَّلَ على أكبر قدر من الحب ، فيكون الفائز ، ثم يقوم المنهزم و يتم استبداله بلاعب آخر إلى أن يَدِبَّ الكلل في اللاعبين .

لم يستسلم الشبان للقيلولة فكان لهم شأن آخر مع اللعب ، فقد انقسموا إلى مجموعتين ، كل فرد في المجموعة ينثني راكعا ممسكا بالآخر على مثل هيئته من خاصرته ، ثم يقوم أفراد المجموعة الثانية بالقفز على ظهورهم ، فإذا صمد الفريق الراكع ولم يسقط أحد أعضائه أرضا ،  فاز الفريق الصامد ، و تعود الكَرَّةُ على الفريق الثاني ،  وقد يتجاذبون طَرَفيْ حَبْلٍ صنعوه هم أنفسهم من شجر الدَّوْمِ ، بينما آثرَ الرعاة من النساء أنْ يراقبن اللعبة عن كثب و عيونهنَّ على أبقارهن و عجولهن و خرافهن التي ينبغي أن تعود سالمة إلى زرائبها قبيل المغرب بقليل .

وحده  كان ولد عمر ” الشفناج ” منعزلا ، نسي أهل الدوار اسمه و لم يعد يحلو لهم مناداته إلا ب ” الشَّلِيَّحْ ”  ، لم يَقِلْ كما قال زملاؤه من الرعاة ، ولم يَلْهُ كما لَهَوْا ، لكنَّ عينيه كانتا تحدقان في الأعمدة الكهربائية ذات التوتر العالي الذي يزود المحطات ، فتحوله إلى تيار قابل للاستعمال المنزلي . أعمدة مبثوثة على طول الأرض التي كستها الخضرة حلة ربيعية بهيجة . لا يدري من أين أتت تلك الأسلاك الكهربائية ، و لا إلى أي جهة تمضي ، فقط  مقلاعه في يده ، يصيب به الطيور التي تقف فوق تلك الأسلاك  لتستريح في انتظار أن تقلع مرة أخرى لوجهة غير معلومة .  شاب يعشق المغامرة و ركوب الصعاب ، و لا يعرف معنى للخوف ـ يستغربُ فضولُه وجودَ كؤوسٍ خضراءَ فوق تلك الأعمدة على طرفي الأسلاك .

عاد عمر ” الشفناج ”  من السوق رفقة ابنه حسن يمتطيان بغلة وقد أمضيا يوما شاقا في بيع السَّفَجِ ، مهمة شاقة تقتضي إعداد العجين في البيت و تركه يخمر ، و تنظيف المعدات من مقلاة و مخطاف وغير ذلك مما لا غنى عنه ، والاستيقاظ قبل الفجر و الانتقال على ظهر بغلة حَرُونٍ إلى الأسواق الأسبوعية . عمل رتيب ، لكن لا غنى عنه على الأقل ثلاث مرات في الأسبوع .

عاد الأب عمر و ابنه حسن و قد وجدا زهرة متربعة تضع القصعة على فخذيها تفتل الكسكس لطعام العشاء في إجهاد بعد أن كنست الزريبة في انتظار عودة الخراف و البقرات ، وفي انتظار البقرة ذات العجل خاصة لتحلبها و تروي بحليبها الكسكس ، فالكسكس بالحليب أحد الأطاييب التي يحب عمر أن يأكلها من يد زوجته خاصة لا من يد غيرها من بناته .

قالت زهرة لعمر بعد أن جلس القرفصاء إلى جانبها :

  • أوشكت الشمس أن تغيب و ” الشَّلِيَّحْ ” سيتأخر كعادته في اللهو و اللعب ، الله يلعنــها قاعدة !!

كان الشَّلِيَّحْ منتشيا ، قد ملأه الزهو و قد أصاب حَمَامَةً ، هو الآن يُمَنِّي النفسَ بِشَــيِّــــــهَا مساءً على جمر الفرن المنتصب خارج السور المحيط بالخيمة ، بعدَ أن تَفْرُغَ أخته من طهي الخبز . نتف ريشها ، و أخلى أحشاءها ، و وضعها في قُبِّ جلبابه في انتظار أن تتأهب الشمس للغروب .

ظلت كؤوس الأعمدة الكهربائية تداعب مغامراته ، و لحظة قال لزملائه في غرورٍ :

  • كم تعطونني إذا تسلقت العمود و لمست كأسا من تلك الكؤوس ؟

استغرب الرعاة كذا مغامرةٍ ، و لم يعيروا اهتماما لِـمَا يقوله ، لكن لا مبالاتهم ألقت به في أَتُــونِ مجازفةٍ لا يُقَدِّرُ عواقبها ، فاندفع الشَّلِيَّحْ يتسلق العمود في ذهول من الجميع ، حتى شارف القمة ، ثُمَّ قال في تحد رافعا يدا إلى السماء شَارَةً للنصر ممسكا بيدٍ أخرى عمود الكهرباء :

  • آش كاين دابا ؟! واش رجل أُولَا لا؟

قال ولد الخماس مترجيا الشَّلِيَّحْ أن ينزل أدراجه :

  • أنت رجل ونصف ، فقط انزل الله يخليك …

أَشْعَلَ رجاءُ وَلَدِ الخَمَّاسِ فَتيلَ الـمُكابَرَةِ في نفسه ، فَهُمَا معًا على طَرَفَيْ رِهَانٍ دائِبٍ ، يتنافسان حتى على ركوب الحميرِ و البغالِ التي ما زالت لم تُرْكَبْ بَعْدُ ، و كلماته ربما لا تروم إلا تَثْبيطَهُ عما عزم عليه من التحدي .

و دون أن يباليَ بتحذيرات الرعاة ، وضع الشَّلِيَّحْ يده المعروقة على الكأس ، فأمسكـــه السلكُ الكهربائيُّ بكل ما أوتي من توتر ، و ألقى به جثةً متفحمةً بعد أن رجَّهُ رَجَّاتٍ متتاليةً ، وتلاعب بجسده إلى أن انطفأ نور الدنيا عنه واختفى عنها باختفاء قرص الشمس خلف تَـلَّـةٍ في صدمة من أصدقائه الرعاة  .

تَهَيَّبَ الجميع إشعارَ خيمتِه ، لكن النبأ المشؤوم كان قد ملأ الدوار ، وبدأ أهله يتهامسون بما حصل .

أظلم الدَّوَّارُ بما فيه و من فيه ، وَ وُورِي جثمان ولد عمر الثرى بعد ثلاثة أيام كان الجسد المُتَفَحِّمُ فيها ضيفا على مستودع الأموات في انتظار استكمال التحقيق .

نُصِبَتِ الخيامُ للعزاء ، و توالت قَصْعاتُ الكسكس من كل حَدَبِ و صَوْبٍ على خيمة عمر  . لم يُدِنْ تحقيقُ رجالِ الدَّرَكِ أحدا من الرعاة ، لكن شيئا لا يزال إلى الآن  عالقا بذاكرة سكان الدَّوَّارِ .  العمود الكهربائي  الآن يسمى ب ” رْكِيزَةْ ولد عمر ” ، و أمست ركيزةُ وَلَدِ عُمَرَ عمودا لا كالأعمدة الإسمنتية المترامية الأطراف ، لكنها عمودٌ  يُؤَرِّخ به الدوارُ  بَعْضَ أيامه تماما مثل  ” حريقة أولاد علي ” التي سار بذكرها الركبان .

تحميل مواضيع أخرى ذات صلة
تحميل المزيد في ثقافة وفن
التعليقات مغلقة.

شاهد أيضاً

ميناء آسفي.. ارتفاع مفرغات الصيد البحري بـ24 بالمائة عند متم يونيو 2025

بلغت الكميات المفرغة من منتجات الصيد الساحلي والتقليدي على مستوى ميناء آسفي، برسم النصف ال…