قصة قصيرة…” رْكِـــيــــــــزَةْ ولد عمر “

684

بقلم ذ / محمد زعير

الوقت ضحى و الرعاة من ” خَمَّاسَة ” ، و أطفال دوار ” طاليعوك ” ، وشبابه يتشحون الفقر و ينتعلون البؤس ، قد استمرؤوا حياتهم على شظفها ، و عقدوا صداقات مع بعضهم وقبل ذلك مع عجولهم و أبقارهم و خرافهم ، يشاركونها شمس الربيع و خُضْرَةَ الـمُروجِ .

الخضرةُ ممتدةٌ على حد البصر في حقول تضج بسنابل القمح و أشجار الذرة المشرئبة في عنفوان إلى السماء تستجدي آخر قطرات الربيع ، وأعمدة الكهرباء منتصبة كأنها حارس يقظ يرمق هامات الرعاة و البهائم وهم يسرحون و يمرحون .

نَزَلتِ الشمسُ في كبد السماء ،  و اشتد وهَجُهَا ، فأما الخرافُ و الأبقارُ فقد أَوَتْ إلى ظل الأشجار الوارفة على جنبات الطريق الممتدة في خطوط متعرجة من ” طالعوك ” إلى مدينة الرماني ، و من طاليعوك  إلى أَحَدِ البراشوة ، و منها إلى مدينة عين عودة بعد أن ارتوت ماءً من الآبار المتاخمة للحقول ، و شعرت بالارتخاء . فظِلُّ الأشجارِ هو الملاذ الوحيد لاتقاءِ حَرِّ الهاجرةِ . وأما كبارُ السن من الرعاة ، فقد استسلموا لقيلولة مشوبة بالحذر من أن تدهس الحافلات القادمة من بني ملال  أو الفقيه بن صالح أو الجرارات التي تخوض الطريق جيئة و ذهابا الدوابَّ الشاردةَ عن القطيع ، بينما جَثَتِ العجولُ على رُكَبِهَا ، و أغمضت أعينها  ، وشرعت تجتر ما كانت قد سَرَطَتْهُ أمعاؤها من عشب في انتظار أن تحفل ضروع أمهاتها باللبن الذي ستقتسمه مع ربَّاتٍ الخِيامِ في المساء بعد أن تُعْقَلَ البقراتُ و تُحْلبَ  .

و لا تزال بقايا من نوم الليل تداعب أجفان الرعاة الذين أَلِفُوا الاستيقاظَ  قبل أن ترسل شمس الربيع  أولى أشعتها معلنة بداية يوم ربيعـيٍّ  .

أطفال بعض الرعاة لا يعرفون للقيلولة معنى ، ها هم الآن قد جلس كل اثنين منهم متقابِلَيْنِ ، وقد حفر كل منهما ثلاث حفر أمامه بعد أن جمعوا  ” البَرِّيوْ ” : حباتٍ من بقايا الأغنام الجافة ، أو جلبوا معهم بعض حبات الحمص ، يلعبون بها لعبة ” زْدَاكْ لْبَاكْ ” ، يكسرون بها رتابة الوقت في انتظار أن يستيقظ الكبار من قيلولتهم التي لا تدوم أكثر من نصف ساعة .

لعبة ” زْدَاكْ لْبَاكْ ” يتسلى بها الرعاة كبارا وصغارا ، ذكورا و إناثا ، الأطفال يحفظون قواعد اللعبة جيدا . يبتدئ اللعب بأن يضع كل لاعب ست حبات في كل حفرة من حُفَرِهِ الثلاث ، ثم يأخذ المنافس المبتدئ حباتٍ من إحدى حفره ، و يقوم بتوزيعها على بقية الحفر الخمس الأخرى بالترتيب ، فإذا وصل إلى حفرة و كانت الحبة التي سيضعها فيها قد استوفت عددا زوجيا أفرغ الحفرة ووضع الحبات جانبا إلى أن يَتَحَصَّلَ على أكبر قدر من الحب ، فيكون الفائز ، ثم يقوم المنهزم و يتم استبداله بلاعب آخر إلى أن يَدِبَّ الكلل في اللاعبين .

لم يستسلم الشبان للقيلولة فكان لهم شأن آخر مع اللعب ، فقد انقسموا إلى مجموعتين ، كل فرد في المجموعة ينثني راكعا ممسكا بالآخر على مثل هيئته من خاصرته ، ثم يقوم أفراد المجموعة الثانية بالقفز على ظهورهم ، فإذا صمد الفريق الراكع ولم يسقط أحد أعضائه أرضا ،  فاز الفريق الصامد ، و تعود الكَرَّةُ على الفريق الثاني ،  وقد يتجاذبون طَرَفيْ حَبْلٍ صنعوه هم أنفسهم من شجر الدَّوْمِ ، بينما آثرَ الرعاة من النساء أنْ يراقبن اللعبة عن كثب و عيونهنَّ على أبقارهن و عجولهن و خرافهن التي ينبغي أن تعود سالمة إلى زرائبها قبيل المغرب بقليل .

وحده  كان ولد عمر ” الشفناج ” منعزلا ، نسي أهل الدوار اسمه و لم يعد يحلو لهم مناداته إلا ب ” الشَّلِيَّحْ ”  ، لم يَقِلْ كما قال زملاؤه من الرعاة ، ولم يَلْهُ كما لَهَوْا ، لكنَّ عينيه كانتا تحدقان في الأعمدة الكهربائية ذات التوتر العالي الذي يزود المحطات ، فتحوله إلى تيار قابل للاستعمال المنزلي . أعمدة مبثوثة على طول الأرض التي كستها الخضرة حلة ربيعية بهيجة . لا يدري من أين أتت تلك الأسلاك الكهربائية ، و لا إلى أي جهة تمضي ، فقط  مقلاعه في يده ، يصيب به الطيور التي تقف فوق تلك الأسلاك  لتستريح في انتظار أن تقلع مرة أخرى لوجهة غير معلومة .  شاب يعشق المغامرة و ركوب الصعاب ، و لا يعرف معنى للخوف ـ يستغربُ فضولُه وجودَ كؤوسٍ خضراءَ فوق تلك الأعمدة على طرفي الأسلاك .

عاد عمر ” الشفناج ”  من السوق رفقة ابنه حسن يمتطيان بغلة وقد أمضيا يوما شاقا في بيع السَّفَجِ ، مهمة شاقة تقتضي إعداد العجين في البيت و تركه يخمر ، و تنظيف المعدات من مقلاة و مخطاف وغير ذلك مما لا غنى عنه ، والاستيقاظ قبل الفجر و الانتقال على ظهر بغلة حَرُونٍ إلى الأسواق الأسبوعية . عمل رتيب ، لكن لا غنى عنه على الأقل ثلاث مرات في الأسبوع .

عاد الأب عمر و ابنه حسن و قد وجدا زهرة متربعة تضع القصعة على فخذيها تفتل الكسكس لطعام العشاء في إجهاد بعد أن كنست الزريبة في انتظار عودة الخراف و البقرات ، وفي انتظار البقرة ذات العجل خاصة لتحلبها و تروي بحليبها الكسكس ، فالكسكس بالحليب أحد الأطاييب التي يحب عمر أن يأكلها من يد زوجته خاصة لا من يد غيرها من بناته .

قالت زهرة لعمر بعد أن جلس القرفصاء إلى جانبها :

  • أوشكت الشمس أن تغيب و ” الشَّلِيَّحْ ” سيتأخر كعادته في اللهو و اللعب ، الله يلعنــها قاعدة !!

كان الشَّلِيَّحْ منتشيا ، قد ملأه الزهو و قد أصاب حَمَامَةً ، هو الآن يُمَنِّي النفسَ بِشَــيِّــــــهَا مساءً على جمر الفرن المنتصب خارج السور المحيط بالخيمة ، بعدَ أن تَفْرُغَ أخته من طهي الخبز . نتف ريشها ، و أخلى أحشاءها ، و وضعها في قُبِّ جلبابه في انتظار أن تتأهب الشمس للغروب .

ظلت كؤوس الأعمدة الكهربائية تداعب مغامراته ، و لحظة قال لزملائه في غرورٍ :

  • كم تعطونني إذا تسلقت العمود و لمست كأسا من تلك الكؤوس ؟

استغرب الرعاة كذا مغامرةٍ ، و لم يعيروا اهتماما لِـمَا يقوله ، لكن لا مبالاتهم ألقت به في أَتُــونِ مجازفةٍ لا يُقَدِّرُ عواقبها ، فاندفع الشَّلِيَّحْ يتسلق العمود في ذهول من الجميع ، حتى شارف القمة ، ثُمَّ قال في تحد رافعا يدا إلى السماء شَارَةً للنصر ممسكا بيدٍ أخرى عمود الكهرباء :

  • آش كاين دابا ؟! واش رجل أُولَا لا؟

قال ولد الخماس مترجيا الشَّلِيَّحْ أن ينزل أدراجه :

  • أنت رجل ونصف ، فقط انزل الله يخليك …

أَشْعَلَ رجاءُ وَلَدِ الخَمَّاسِ فَتيلَ الـمُكابَرَةِ في نفسه ، فَهُمَا معًا على طَرَفَيْ رِهَانٍ دائِبٍ ، يتنافسان حتى على ركوب الحميرِ و البغالِ التي ما زالت لم تُرْكَبْ بَعْدُ ، و كلماته ربما لا تروم إلا تَثْبيطَهُ عما عزم عليه من التحدي .

و دون أن يباليَ بتحذيرات الرعاة ، وضع الشَّلِيَّحْ يده المعروقة على الكأس ، فأمسكـــه السلكُ الكهربائيُّ بكل ما أوتي من توتر ، و ألقى به جثةً متفحمةً بعد أن رجَّهُ رَجَّاتٍ متتاليةً ، وتلاعب بجسده إلى أن انطفأ نور الدنيا عنه واختفى عنها باختفاء قرص الشمس خلف تَـلَّـةٍ في صدمة من أصدقائه الرعاة  .

تَهَيَّبَ الجميع إشعارَ خيمتِه ، لكن النبأ المشؤوم كان قد ملأ الدوار ، وبدأ أهله يتهامسون بما حصل .

أظلم الدَّوَّارُ بما فيه و من فيه ، وَ وُورِي جثمان ولد عمر الثرى بعد ثلاثة أيام كان الجسد المُتَفَحِّمُ فيها ضيفا على مستودع الأموات في انتظار استكمال التحقيق .

نُصِبَتِ الخيامُ للعزاء ، و توالت قَصْعاتُ الكسكس من كل حَدَبِ و صَوْبٍ على خيمة عمر  . لم يُدِنْ تحقيقُ رجالِ الدَّرَكِ أحدا من الرعاة ، لكن شيئا لا يزال إلى الآن  عالقا بذاكرة سكان الدَّوَّارِ .  العمود الكهربائي  الآن يسمى ب ” رْكِيزَةْ ولد عمر ” ، و أمست ركيزةُ وَلَدِ عُمَرَ عمودا لا كالأعمدة الإسمنتية المترامية الأطراف ، لكنها عمودٌ  يُؤَرِّخ به الدوارُ  بَعْضَ أيامه تماما مثل  ” حريقة أولاد علي ” التي سار بذكرها الركبان .

تحميل مواضيع أخرى ذات صلة
تحميل المزيد في ثقافة وفن
التعليقات مغلقة.

شاهد أيضاً

إنفنتينو : تأهل المنتخب المغربي إلى نهائيات كأس العالم 2026 “إنجاز إستثنائي”

وصف رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا)، جياني إنفانتينو، أمس الجمعة، تأهل المنتخب المغر…