صحافة..المعركة لم تعد فقط من أجل الحقيقة، بل من أجل إنقاذ المهنة نفسها

135

إلى الذين لم تطأ أقدامهم قاعات التكوين، ولم يقرأوا حتى أبجدية الصحافة، بل جعلوا من المهنة الجليلة سوقًا لكل تائه في دروب الجهل….

سئمنا… وهرمنا، حتى وجدنا أنفسنا وسط زحام من المتطفلين، ممّن تَسلّلوا إلى جسد الصحافة كما يتسلّل الصدأ إلى السيف… لا صوت لهم سوى الضجيج، ولا رصيد لديهم إلا الجُرأة الوقحة، ولا صفة يحملونها سوى لقب مزوّر: مراسل صحفي
ارحمونا…
ارحموا مهنة الصحافة من غوغاء الهواتف المرفوعة، ومن بؤس الميكروفونات التي لا تنقل خبراً بل تنفث جهلاً، ومن عار « مراسلين » لم يدرسوا الصحافة يوماً، ولا يعرفون عنها إلا اسمها المطبوع على بطاقة مزورة، أو مدوَّنة على صدر ميكروفون مشبوه.
أنتم لستم صحافيين…
أنتم غزاة في ثوب إعلاميين.
دخلتم الميدان لا بتكوين ولا بتدرج، بل بقفزة وقحة فوق المهنة، تحت غطاء « مراسل ميداني »، وكأن الصحافة باب مفتوح لكل عابر، وكل من عجز في مهنة، حمل كاميرا، وصار يتقمص دور الصحفي.
من أذن لكم بالكلام باسم الناس؟
من رخّص لكم الحديث باسم الصحافة؟
من منحكم الحق لتكونوا في الصفوف الأولى، وأنتم لم تعرفوا يومًا معنى التحرير الصحفي، ولا طعم التحقيق الميداني، ولا ثقل الخبر الصادق؟
لقد حولتم المهنة إلى كاريكاتير
أصبحت القنوات تغصّ بوجوه لا تمت للصحافة بصلة، أصوات تتعثر في اللغة، وتسقط في المعنى، وعيون لا ترى إلا حيث المال والرواج
وما أشدّ المرارة حين نرى هؤلاء يتحدثون عن « السلطة الرابعة » وكأنهم فرسانها، وهم بالكاد لا يحسنون نطق جملة سليمة
الصحافة لا تُورّث، ولا تُشترى، ولا تُغتصب.
الصحافة ميدان من نار، لا يتحمله إلا من مرّ من نار التكوين والتجربة والتضحية.
فمن لم يعرف نُبل البحث، وأخلاق الخبر، وميزان الحقيقة… فمكانه ليس بيننا.
ألا تخجلون من اعتداءاتكم المتكررة على المهنة؟
ألا تدركون أنكم تُسهمون في قتل آخر ما تبقى من ثقة في الإعلام؟
لقد خدعتم الناس لفترة… لكن لا يُخدع الناس دائماً.
وسيأتي يوم – وهو قريب – تُسحب فيه البُسُط من تحت أقدامكم، وتُفضح فيه بطاقاتكم المزيفة، ويُرمى بكم خارج السرب، كما يُرمى الدخلاء من جسدٍ لم يتقبلهم.
إلى النقابة… إلى المؤسسات المتواطئة… إلى من باع المهنة مقابل تغطية مجانية:
كفى!
كفى تواطؤاً مع الرداءة
كفى منحاً لبطاقات « مراسل » لكل من صفّق أو نبح أو أثار زوبعة من فراغ
كفى تساهلاً مع من يلبس لباس الصحفي، ولا يملك من الصحافة إلا القناع.
وإلى الصحفيين الحقيقيين نقول:
لا تصمتوا، لا تسايروا، لا تتنازلوا…
فلو سكتُم، سيتحدث هؤلاء باسمكم، وسيكتبون تاريخ المهنة بمداد الكذب والابتذال
الصحافة أمانة، لا نفعية
المراسل الصحفي تدرّب، لا تسلل.
الميكروفون رسالة، لا ديكور
وإنها لمعركة كرامة…
إما أن تُستعاد فيها الصحافة من أيدي الدخلاء
وإما أن نُعلن وفاة مهنة النبلاء… على يد المزوّرين
لقد سئمنا… وهرمنا، حتى وجدنا أنفسنا وسط زحام من المتطفلين على مهنة الصحافة.
أشباه بشر، وفضلات مهنة، يحملون ميكروفونات كمن يحمل أسلحة ضالة، ويقتحمون المشهد الإعلامي بصراخ يشبه نهيقًا أكثر مما يشبه خطابًا.
ارحمونا… يرحمكم الله.
ارحموا مهنة الصحافة من تلوث أصواتكم، ومن فوضى هواتفكم، ومن جهل كامن في أعينكم وكلماتكم، ومن تلك اللافتات التي تطبعونها بخط رديء وتسمونها « هوية صحفي »
ألا تعلمون أنكم منتحلون للصفة؟
صفة لا تليق إلا بالنبلاء، بالشرفاء، بمن خبروا مرارة الحرف وصدق الخبر ونُبل الكلمة.
ظننتم أن صراخكم سيحجب عوراتكم؟
أن ضجيجكم سيستر جهلكم؟
هيهات… ثم هيهات
فالميكروفون، وإن دوّى، لا يُخفي خواء العقول، ولا يُجمّل وجوهًا غُسلت بماء الوقاحة
وسيأتي يوم، تؤدون فيه فواتير ادعائكم، أمام القانون، وأمام المجتمع، وأمام ضمائركم – إن بقي منها شيء.
لقد حولتم الصحافة من رسالة سامية إلى مسرحية هزلية.

أين هي دروس الإعلام؟
أين ثقافة السؤال؟
أين فهم السياق وتحليل الحدث وربط الخبر بالمعنى؟
لقد أتيتم على كل شيء، ودمرتم كل شيء، حتى صرنا نخجل من أن نقول إننا ننتمي إلى بلاط صاحبة الجلالة

أخلوا الساحة… قبل أن يُزاحمكم الحساب.
الصحافة ميثاق، وليست « تيفو » إلكتروني.
الصحافة شرف، لا كوفر فوتو مفبرك.
الصحافة استحقاق، لا مهرجان للمراهقة الفكرية.
وإلى الشرفاء من أهل القلم والعدسة والصوت النزيه
قاوموا…
فالمعركة لم تعد فقط من أجل الحقيقة، بل من أجل إنقاذ المهنة نفسها.
اكتبوا، بصوت ثابت، ولو في وجه الزيف.
فضحوا، ولو كثر المطبلون
تقدموا، ولو تأخر الزمن
فالكلمة الحقّ تباقية، ولو علا فوقها ضجيج السوق.
والميدان لا يُطهر إلا حين يُطرد منه كل دخيل… وكل ناطق بلا فكر.
: ارحمونا… فقد هرمنا من زيف الميكروفونات

عبد الرحيم بخاش

تحميل مواضيع أخرى ذات صلة
تحميل المزيد في إلى من يهمه الأمر
التعليقات مغلقة.

شاهد أيضاً

“سباق الأبطال” بين آسفي والواليدية… مبادرة رياضية بطموحات سياحية دولية

نظّمت مجموعة الأبطال هواة الجري لمدينة آسفي يومي السبت 19 والأحد 20 يوليوز سباقًا رياضيًا …